عاشت البشرية حروباً دامية راح ضحيتها ملايين القتلى لاسيما بين صفوف القوات المسلحة المتحاربة وتسببت في الكثير من الكوارث والمآسي البشرية وتدمير البنى الاجتماعية بسبب كثرة اليتامى والأرامل مما أثار تذمر السكان من فقدان أبناءهم في حروب عبثية أحياناً وغير عادلة أو غير مشروعة في أغلب الأحيان . وإزاء مثل هذا الواقع تحولت الخدمة العسكرية الإلزامية إلى كابوس يؤرق حياة الشباب القادر على حمل السلاح بمجرد وصولهم إلى سن البلوغ أي الثامنة عشر ولا يحميهم من هذا المصير سوى انشغالهم بالدراسة. كان الشباب يتهربون بكل الطرق من تأدية الخدمة العسكرية ويفضلون أن يظلوا مطاردين وخارجين عن القانون ومرعوبين طيلة فترة ملاحقتهم فالخدمة العسكرية تعني حتماً في بعض الدول المشاركة في حرب والتعرض لخطر الموت أو الإعاقة إذا ما تعرض المجند للإصابة والجرح. من هنا ظهرت حركات مناوئة لنزعة العسكرة ووضع المجتمع المدني تحت تهديد الحروب وتجنيد الشباب وإرسالهم إلى ساحات الوغى حيث المحرقة والنيران الكثيفة وأجواء الموت التي تهيمن عليها.

استلهمت بعض الدول المتحضرة دروس الحروب الدامية الماضية كالحربين العالميتين والحروب الاستعمارية والحروب الإقليمية فقررت إلغاء الخدمة العسكرية الإلزامية واستحدثت ما عرف بالجيش الاحترافي الذي قوامه مجموعة من المتطوعين المحترفين الذين يتخذون العمل العسكري مهنة لهم كما حدث في العديد من الدول الأوروبية اليوم.بيد أن ذلك لم يكن كافياً للحد من موجة الغضب والامتعاض الاجتماعي من الحكومات التي ترسل شبابها إلى معارك خطيرة خاصة تلك التي تدور خارج الحدود الوطنية لاسيما عند رؤية الجنود يعودون إلى أرض الوطن في توابيت يراها الرأي العام عبر وسائل الإعلام المرئية والفضائيات التي تنقل الحدث على نحو مباشر مما يثير و يفاقم الشحنة العاطفية وإلقاء مسؤولية موت هؤلاء الجنود على عاتق الحكومات التي زجتهم في حروبها العدوانية كالحرب الأمريكية في فيتنام وكوريا والحرب السوفيتية في أفغانستان والحرب الفرنسية في الجزائر وحرب إسرائيل في لبنان والأراضي المحتلة وحروب صدام على إيران والكويت والحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق الخ ..

وعلى ضوء هذا التشخيص السوسيولوجي تنادت بعض المراكز البحثية لإيجاد حلول بديلة ونظمت حلقات دراسية معمقة في وزارات الدفاع في العديد من الدول الغربية وعلى رأسها البنتاغون وخرجت بفكرة قديمة ـ جديدة في آن واحد تقول بخصخصة الجيوش . فماذا تعني هذه الصيغة؟ إنها وبكل بساطة تعني نقل عملية الخصخصة من المجال الاقتصادي والتجاري إلى المجال العسكري وتسليم القطاع الخاص مسؤولية تشكيل الجيوش المحترفة " بصيغة قوات المرتزقة من كافة الصنوف " تقوم بها وتشرف عليها شركات متخصصة تتمتع بإمكانيات مالية وتجهيزية عالية تقوم بشراء كافة أسلحة ومعدات القوات المسلحة من الدول ووزارات الدفاع وفتح باب الانخراط في جيوش القطاع الخاص التي توضع في خدمة الدول مقابل أموال هائلة تدفع للشركات بموجب عقود مجزية للقيام بمهام محددة ولفترة زمنية محددة هي فترة العقد المبرم بين أية دول وتلك الشركات العسكرية الأهلية العلنية التي تدفع ضرائبها للدول كباقي الشركات الأخرى . وبالتالي سيكون بوسع أي ديكتاتور لا يثق بشعبه أو جيشه الوطني لحماية نظامه أو أي ملك أو أمير يرغب بحماية حدود دولته من هجمات الطامعين بدولته، خاصة إذا كانت دولة غنية وضعيفة في نفس الوقت، اللجوء إلى تلك الشركات العسكرية واستئجار خدماتها للقيام بمهام عسكرية محددة ولفترة زمنية محددة كقمع تمرد مسلح أو تصفية ميليشيات مسلحة أو عصابات مافياوية خارجة على القانون ، بل وبوسع الدول الكبرى أن تقوم بتأجير الجيوش الخاصة التابعة لتلك الشركات للقيام بعمليات عسكرية معينة لحسابها وخارج حدودها الوطنية دون الحاجة إلى زج شبابها وإثارة غضب ومعارضة وامتعاض أهاليهم ضدها، وهو الأمر الذي تدرسه وزارة الدفاع الأمريكية " البنتاغون" بجدية اليوم للخروج من المأزق العراقي بأقل الخسائر من تأمين وضمان المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة . والجدير بالذكر أن تلك الجيوش الخاص لاتنتمي لبلد معين وليس لها هوية وطنية فهي تستقطب كل المولعين بلعبة الحرب والقتال والتعامل مع الأسلحة وكل الفاشلين في الحياة المدنية من كافة الأجناس والأعراق والجنسيات والبلدان . وعليهم أن يقاتلوا بحرفية عالية وببرودة دم وبلا وخزة ضمير وبانضباط عالي لأن التمرد وعدم إطاعة الأوامر مصيره الموت الفوري وبلا محاكمة وفق القانون الداخلي للشركة العسكرية الذي يوقع عليه المجند المتطوع بإرادته وعليه قبول الشروط المسبقة بدون استثناء. وستكون أول تجربة عملية لهذا النوع من النشاط العسكري المرتزق في كولومبيا لمحاربة مافيات المخدرات والقوى المسلحة المتمردة على النظام إذ أبدت الحكومة الكولومبية رغبتها في استئجار خدمات إحدى تلك الشركات العسكرية العملاقة المتعددة الجنسيات وإذا نجحت في مهمتها فسوف تكون ورقة رابحة بيدها للدخول إلى سوق الاستثمار العسكري وتحقيق الأرباح الطائلة حيث تصل قيمة العقود المبرمة إلى مليارات الدولارات لكل عقد. ومن المنتظر أن تبادر دول خليجية للاتصال بتلك الشركات وإبرام صفقات وعقود معها لتوفير الغطاء العسكري اللازم لحماية منشآتها النفطية وأنظمتها من أي تهديد خارجي يتهددها. وقد نبعت الفكرة في رأس أصحاب تلك الشركات بعد نجاح الشركات الأمنية الخاصة التي جنت أرباح هائلة في العراق مقابل ما تقدمه من خدمات حماية لمواقع مهمة ومسؤولين وشخصيات عراقية وأجنبية داخل العراق. إن مناسبة الحديث عن موضوع خصخصة الجيوش هو أن هناك تجربة أمريكية سرية في العراق سبق أن أشرنا إليها في مقال سابق عن احتمال وقوع انقلاب عسكري في العراق فتهكم البعض علينا وسخر من فرضيتنا ولكن سرعان ما تناولت وسائل الإعلام والقنوات الفضائية هذا الموضوع وأشبعته بحثاً وتعليقاً وخلصت إلى أن هذه الفرضية مستحيلة لأنه لا توجد أية قوة عسكرية على الأرض العراقية عدا القوة الأمريكية، قادرة على تنفيذ انقلاب عسكري على الحكومة العراقية القائمة وهذا صحيح بيد أن المسألة لا تتعلق بقوات عراقية نظامية معروفة تخضع لمراتبية وإشراف وأوامر وزارة الدفاع العراقية بل تتعلق بقوات سرية أوجدتها الإدارة الأمريكية سراً كسيناريو بديل ومنفذ أخير لها للخروج من المأزق العراقي بعد أن تفشل كل الحلول السياسية والعسكرية والاستراتيجيات المعلنة عند ذلك ستلجأ الولايات المتحدة الأمريكية إلى سيناريو الانقلاب العسكري ولكن ليس بمعناه وشكله التقليدي، بل عبر نمط جديد من التغيير السياسي بوسائل الحل العسكري المعد سلفاً بعد أن وفرت له مقوماته ومسوغاته وأدواته من خلال تفعيل تلك القوات السرية التي تستلم رواتبها من ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية في الوقت الحاضر وأغلبها يتكون من متطوعين عراقيين وعرب أمريكيين تم تدريبهم وتجهيزهم خارج العراق ويتلقون أوامرهم مباشرة من القيادة العسكرية الأمريكية في البنتاغون ولا علاقة لوزارتي الدفاع والداخلية العراقيتين بهم بل ولا علم لهما بوجودهم خاصة وأن تلك النواة من القوات ترفد باستمرار ببعض الأجانب من المسلمين الناطقين بالعربية وأنضم إليهم مؤخراً عدد من ضباط وجنود ومراتب مختلفة من االجيش العراقي السابق الذين تم الاتصال بهم قبل الحرب وتجنيدهم داخل هذه القوة العسكرية السرية وهم محترفون وغير موالين لصدام كلياً ويتمتعون بمعرفة عميقة بالعناصر الإرهابية والتكفيرية والعناصر البعثية والصدامية المسلحة التي تثير الفوضى والدمار في العراق وهم قادرون على احتواء وتحييد الشبكات الإرهابية المسلحة المنتشرة والمهيمنة على المناطق ذات الكثافة السنية أو نظيرتها ذات الكثافة الشيعية في العراق بعد أن تفشل القوات الأمريكية والعراقية من تحييد وشل حركة ونشاط الميليشيات المسلحة الشيعية المتمردة على السلطة كجيش المهدي وغيره من التنظيمات المسلحة الموالية لإيران. وسوف تكون الذريعة أن أمريكا لم تعد قادرة على تحمل عواقب وتداعيات تدهور الوضع الأمني العراقي وتقديم المزيد من الضحايا والجنود القتلى وأن الحكومات العراقية المتعاقبة على الحكم منذ سقوط نظام صدام حسين فشلت في تطبيع الأوضاع وتحقيق الحد الأدنى من الإصلاحات وفرض النظام لذا كان لابد أن تبادر مجموعة من " المخلصين من القوات المسلحة العراقية" لتصحيح الأوضاع الشاذة وإعادة الأمن والاستقرار وفرض النظام والقانون من أجل تمهيد الأرضية لإعادة البناء والإعمار وسوف تحظى هذه الخطوة بمباركة وتأييد الولايات المتحدة وعدم تدخلها باعتبارها خطوة عراقية بحتة وشأن داخلي عراقي وأن الولايات المتحدة ستحترم سيادة العراق ولن تتدخل في شؤوونه الداخلية. إذ من شأن هذه الخطوة انقاذ العراق من الوضع المرزي الذي تهاوى إليه وإنقاذ الشعب العراقي من دوامة العنف والإرهاب التي باتت تحصد أرواح أبنائه بالآلاف يومياً ولابد من وقف نزيف الدم وتوفير الأمن والخدمات لهذا الشعب المظلوم ولن يكون قادراً على تحقيق مثل هذا الهدف سوى نظام عسكري قوي يبطش بمعارضيه المتمردين والمسلحين ممن يرفعون السلاح ضده واعتقال السياسيين الفاسدين أو الطائفيين وعزلهم عن الممارسة السياسية وتجميد العملية السياسية الجارية مؤقتاً . بيد أن درجة العنف والاستبداد والبطش لن تصل إلى الحدود التي وصلها نظام صدام البائد لأن مثل تلك الممارسات لم تعد مقبولة من قبل الشعب العراقي الذي ذاق الأمرين منها ولا من قبل المجتمع الدولي الذي لم يتحمل مثل تلك الخروقات لحقوق الإنسان. و بدون مثل هذا الحل الحديدي والسحري سينجر العراق آجلاً أم عاجلاً إلى أتون حرب أهلية ـ طائفية ـ عرقية ـ طاحنة ودامية ستأكل الأخضر واليابس لاسيما في ضوء أحتمال إنسحاب القوات الأمريكية تحت ضغط الشارع الأمريكي والدولي ومناورات المعارضة الديموقراطية الأمريكية التي ستصل إلى السلطة حتماً في الانتخابات الرئاسية القادمة بعد عام الآن وسوف ينشطر العراق وييتشظى إلى دويلات متناثرة ومتصارعة ضد بعضها البعض التي ستكون مسرحاً لصراعات داخلية في إطار كل دويلة أو إقليم ولن ينجو من ذلك لا الأكراد ولا الشيعة ولا السنة ولا باقي الأقليات والمكونات للنسيج الاجتماعي العراقي، فكل جزء سيحاول تكريس نفوذه والمحافظة على مكتسباته ومناطق نفوذه رغم أنف السكان المدنيين العزل الذين سيتحولون إلى رهائن ودروع بشرية يتمترس خلفها أمراء الحرب وسيسود نظام الميليشيات والمعممين الصغار على المجتمع الشيعي ونظام الطالبان بنسخته العراقية الظلامية على المناطق ذات الكثافة السنية ونظام الو لاءات العشائرية والحزبية في الإقليم الكردي وستستغل الدول الإقليمية هذا التشرذم والانقسام لتتوغل أكثر فأكثر إلى الداخل العراقي وتنهش ما تبقى منه وتدعم بالمال والسلاح من يواليها من قوى وميليشيات وسيغرق العراق في بحر من الدم ولن تكون أمريكا قادرة على وقف هذا الطوفان الكارثي شاءت ذلك أم أبت . ومن هنا لن يكون أمام الولايات المتحدة الأمريكية سوى اللجوء إلى السيناريو الثالث وهو استئجار خدمات جيش أهلي محترف يضع على رأسه غلالة عراقية ويتحرك تحت برقع عراقي يجنب االولايات المتحدة الأمريكية الخسائر البشرية ويحقق لها الأهداف الاستراتيجية والحيوية العليا التي جاءت من أجلها إلى المنطقة مبتدئة بغزو العراق واحتلاله. ولو نجح هذا السيناريو الثالث فسوف تطبقه بكل تأكيد على سوريا ولبنان وربما إيران مع بعض التحويرات نظراً لخصوصية الحالة الإيرانية وتعقيدها واتساع خطورتها. لذلك يتعين على القوى السياسية الوطنية العراقية المخلصة أن تأخذ حذرها وألا تقع في هذا الفخ الذي نصبته لها أمريكا والقوى الإقليمية ومن يواليها في الداخل العراقي فأما النجاح مهما كانت التضحيات والتنازلات المطلوبة وإما الطوفان الذي سيكسح، ليس العراق فحسب، بل المنطقة برمتها والعياذ بالله.