فيما المساعي السعودية ـ الإيرانيّة منعت الفتنة وأطلقت الحوار ولم تستبعد دمشق

تمرّ الزيارة المقرّرة لوزير خارجيّة المملكة العربيّة السعوديّة الامير سعود الفيصل إلى طهران بمرحلة ضبابيّة، ينقصها الوضوح في تحديد الموعد، ومعه جدول الأعمال، والأهداف المرجوة، والمهل التطبيقيّة لما قد يصار الاتفاق بشأنه على أرض الواقع.
قيل الكثير حولها، لا بل تحوّلت الى مادة في التوظيف السياسي المحلي خلال الأسابيع الماضيّة، حتى أن الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الايرانيّة قد أكدّ على حصولها « في المستقبل القريب».
وقبل أيام معدودة، لم يكن لدى المعنيين في بيروت أي موعد محدد للزيارة، لكن التوضيح هذا جاء مشفوعاً بتأكيدين: إنها ستتم في الموعد المناسب، وإن العلاقات الايرانيّة ـ السعوديّة هدفها التعاون، وتقوم على أسس وثوابت، بينها تبادل الزيارات بين المسؤولين وعلى مختلف المستويات، ولذلك فإن الزيارة عندما ستتم، إنما ستأتي لتضيف مدماكاً جديداً في مشروع التعاون المتكامل الذي لا يقتصر على لبنان فقط، بل على العديد من التحديات الماثلة، والملفات الساخنة في المنطقة.
وعندما يتحدث الإيرانيّون عن هذه العلاقة، يبدو الكلام صريحاً ومتحررّاً من «القفّازات الحريريّة»، ولغة «اللّف والدوران» إلى المباشر والعملي، والدليل أن هذا التعاون «قد نجح في منع انجرار البلاد إلى حرب مذهبيّة، كما نجح في إطلاق الحوار بين الرئيس نبيه بريّ، والنائب سعد الحريري، وكاد أن يحقق اختراقا إيجابيّاً، لو لم يتدخل الاميركي في الوقت المناسب لينسف كلّ شي ء؟!».
في ظلّ هذه الأجواء، وتحت هذه الخيمة، تتوزع عناوين كثيرة وتفاصيل معقّدة، ومتشعّبة لبنانيّاً وإقليميّاً ودوليّاً.
على المستوى اللبناني يمكن تسجيل بعض التمايزات:
أولاً: هناك تفاهم سعودي ـ إيراني على أن لا حلّ في لبنان بدون سوريا، ولا حلّ معها وحدها، ولا بدّ من الدخول بقوة وزخم على دمشق لمعرفة ما عندها، وماذا تريد لتسهيل المساعي الرامية إلى احتضان الأزمة بداية، قبل الانكباب عليها لمعالجة عقدها الكثيرة المتشابكة. ولم يعد خافياً أن الرياض فوّضت طهران بالسعي إلى اعتماد قناة اتصال وتواصل مع دمشق حيال لبنان، على أن تدعم المملكة هذا المسعى بقوة، إلاّ أن الرد السوري تمحور حول مطلبين إثنين: أن تكون الاتصالات السعوديّة ـ السوريّة مباشرة، دون الحاجة الى الوسيط الايراني، وأن يكون هذا الاتصال مستنداً إلى جدول أعمال واضح، حتى ولو كان مقتصراً على المبادرة العربيّة التي أطلقها يوماً الامين العام للجامعة عمرو موسى، والتي لا ترى فيها دمشق ما يمكن المساهمة على إنضاجه، ما لم يتفق اللبنانيون، أو يعززوا الانطباع بأنهم مقتنعون بتطبيق ما ورد فيها.
ثانياً: إن الحاجة الى سوريا للمساعدة على تنقية الأجواء اللبنانيّة، تقابلها حاجة سوريّة لمساعدتها على تنقية أجوائها، وتمتين أواصر علاقاتها مع العديد من النافذين الإقليمييّن والدولييّن الممسكين بالملفات الكبرى الساخنة في المنطقة، وطالما أن مثل هذا التوجه موجود، فإن المسألة تبقى في دائرة التأزيم، لأن الولايات المتحدة ترفض أن تحاور سوريا حول لبنان، وتطلب منها الامتثال فوراً إلى تطبيق ما نصّت عليه القرارات الدوليّة، ومن دون اعتراض، وعندما يكون هذا هو التوجه، فإنه يصعب على أيّ كان الدخول في مفاوضات مع سوريا للتخفيف من ضغوطها على لبنان، ومن دون مقابل؟!
ثالثاً: يجب الاعتراف بأن هناك الكثير من الملفات في المنطقة التي يوجد تمايز في المواقف السعوديّة ـ الإيرانيّة ـ السوريّة حول كيفيّة معالجتها، ومثل هذا التمايز يؤثر ـ ولو بحدود معيّنة ـ على الإحاطة الشاملة العميقة للملف اللبناني.
رابعاً: إن المواجهات في مخيم نهر البارد قد استغلت على نطاق واسع للنيل من السعوديّة، وهذا ما عززّ الاعتقاد بوجود أطراف كانت لها مصلحة مباشرة وراء حملة التشهير بهوية بعض المسلحين في تنظيم «فتح الإسلام»، للتشويش على مكانة السعودية، ودورها الايجابي في لبنان، وربما أسهمت هذه الحملة في احتجاب هذا الدور، وعودته الى القنوات السريّة، والكواليس المقفلة.
خامساً: إن إقرار المحكمة الدوليّة تحت الفصل السابع قد أدى الى نسف ما كان قد تمّ بناؤه، وبعد جهد جهيد من عوامل الثقة ما بين دمشق والرياض، خصوصاً عندما فسّرت بعض الاوساط السوريّة الرسميّة، ان ما حصل كان بمثابة انقلاب على التفاهمات التي سبق ان تمتّ حول كيفيّة إقرار هذه المحكمة. كما أن العودة الى مجلس الامن قد شكّلت للسوريين رسالة تحدّ، وعلى قاعدة أن من هو قادر على إنشاء محكمة دوليّة تحت الفصل السابع من قبل مجلس الأمن، قادر على استصدار قرارات عن هذا المجلس قد تفرض المزيد من العزل على سوريا إذا ما استمرت ممانعتها للسياسة الاميركيّة المتبعة حيال الشرق الاوسط ولبنان؟!
إن وجود مثل هذه التباينات، وربما غيرها أيضاً، قد رفعت من منسوب التحدي: هل يعقل أن دولتين إقليميتين كبيرتين بمستوى السعوديّة وإيران لا تستطيعان إنهاء الأزمة في لبنان؟!
يأخذ مثل هذا التحدي بعداً جديداً مع زيارة الرئيس الايراني أحمدي نجاد الى دمشق. هل قررت الدولتان تطوير سبل المواجهة مع الإدارة الأميركيّة ومشروعها في المنطقة؟ أم قررتا تحسين دفتر الشروط للدخول في مفاوضات متكافئة معها تبدأ حول العراق وتنتهي في لبنان، وفلسطين، والصراع العربي ـ الإسرائيلي، وسائر الملفات العالقة؟
في الحالة الأولى لا توجد إمكانيّة أمام الدور السعودي كي يكمل مشواره الطويل مع إيران، لا حول الوضع في العراق ولا حول لبنان ولا في فلسطين، لأن المواجهة تعني المواجهة، والسعودية ليست في وارد أن تتواجه مع أحد فكيف مع الولايات المتحدة، ومع هذه الإدارة الأميركيّة بالذات؟!
أما في الحالة الثانيّة ـ وهي الأقرب إلى المنطق وفق مسار التطورات ـ فإن المملكة مع الحوار، وبالتالي هي تنتظر الايجابيات التي ستتمخض عنها زيارة الرئيس الإيراني، والى أين وصلت الاجتماعات الايرانيّة ـ الأميركيّة حول العراق؟ والى أي مدى يمكن ان يحقق المسار الدبلوماسي اختراقات إيجابيّة على صعيد البرنامج النووي الايراني، وسائر «البرامج» الأميركيّة الناشطة في المنطقة؟!
يأتي الجواب، وفق مقاربة سعوديّة وأخرى إيرانيّة، مدموغاً بحجتين: الاولى: إن التفاهم على منع الفتنة في لبنان يقود الى التفاهم على الحؤول دون اندلاع المواجهة العسكريّة الاميركيّة ـ الايرانيّة، نظراَ لتداعياتها الخطيرة على الامن والسلم العالمي، والإقليمي خصوصاً على منطقة الخليج.
الثانيّة: إن أيلول هو زمن الاستحقاقات الكبرى في الولايات المتحدة، حيث سيعود الكونغرس من إجازته الصيفيّة ليناقش خطة إدارة الرئيس بوش حول العراق، فإما يدحضها الثقة، وإما يلزمها بالتغيير. وفي فلسطين الانتخابات المبكّرة، وفي إسرائيل تقرير لجنة فينوغراد حول الحرب على لبنان، وتداعياته، وفي لبنان الاستحقاق الرئاسي، فإما ينتخب الرئيس التوافقي، وإما أن الأزمة ستندفع مفتوحة على المجهول...
ولتفادي هذا المجهول تبدو الخيارات ضيقة، فلا الثنائيّة الايرانيّة ـ السوريّة أنتجت حتى الآن تقارباً جديّاً مع الرياض التي تبدّي الحل العربي في لبنان على الخيارات الأخرى، على أن يكون الدور الايراني تحت هذا السقف وداعماً لهذا الحل ومسّهلاً له، ولا الثنائية السعوديّة ـ الإيرانيّة قد تمكّنت من بلوغ هذا الحل بمعزل عن سوريا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، ولا الجهد الفرنسي قد تمكن حتى الآن من توفير الجواب المقنع: هل باريس تنسّق بعمق مع الادارة الاميركيّة، وتحاول تخطي العقبات العربية الإقليميّة لإخراج لبنان من المأزق، أو أن تحركها سيقتصر على ملء الفراغ، وتقطيع المرحلة؟!...

مصادر
السفير (لبنان)