أجيال شابـّة، وهويات شائخة

خالد الاختيار

كانت الدراما بادية على وجوه تلك الثلة من الشباب التي اختيرت بشيء من العشوائية والارتجال ليقع على عاتقها مهمة صياغة ما يشبه بيانا ختاميا لندوة عقدت تحت عنوان (التلاقي الثقافي وشبيبة الغد).

ومن بين التعليقات والمداخلات الوفيرة كان على المجموعة قليلة الخبرة أن ترمي ورائها آسفة الإنشاء والمجاز الوردي الذي لم يبخل به جمهور الجلسات المتوالية، لتختزل في النهاية وبموضوعيتها الخاصة أفكارا تخالفت بقدر ما تآلفت عبر أيام أربعة سخرها المنظمون بإخلاص للتداول في مانشيتات ليس أقلها (تطور الهويات الثقافية) و(صراع الحضارات عبر الأصولية والعولمة والتعصب) و(استراتيجيات اللاعنف في العلاقات الثقافية)، وغيرها مما يشفق كثير من الدارسين بل ومراكز البحوث من تناولها على الجملة كحال هذا الملتقى.

على أنها ليست المرة الأولى التي يستضيف فيها دير مار موسى الحبشي مثل هذه النشاطات الحوارية، إذ له معها تاريخ مشهود ينوف على العقد، بهمة لا تعرف الكلل من عرّابها الأول الأب الإيطالي باولو دالوليو، فهو الراهب الذي تستلذ أذنه وقع اسمه بالعربية (بولص) لاينفك يلوب في الأرجاء، تارة تراه بجلباب كهنوت داكن وحزام جلد معتـّق، وأخرى ببنطال و قميص وحقيبة ظهر تصلح لطفل، وتارة تلمحه متسربلا (قمبازا) محليا ذا تطريزات أنيقة.

وإن كان لا يعوزنا كثير عناء لتلمس ردود الفعل التي تخلفها عادة لسعات وبلسمات هذا القسيس كثير الجلبة بين المفكرين ورجال الدين هنا؛ فإن جهدا أكبر يلزمنا حقيقة لتقصي آثار سعيه وآخرين في هذا القصد بين شرائح الشبيبة المختلفة، ولعل هذه الندوة عن (التلاقي الثقافي وسؤال الهوية) شكلت فرصة طيبة لـ(نافع) على سبيل المثال الشاب العشريني المتحمس ليدلي بدلوه في سجال سبق ان أهرق فيه الكثير من الحبر إن لم نقل الدماء، فتجده لا يتوانى عن التصريح دفعة واحدة و من دون مقدمات:(الحوار الإسلامي-المسيحي كذبة كبيرة، وعلينا ألا نتكلم عن هذه الأمور هنا، لأننا سنفتح عيون المسلمين والمسيحيين على أشياء لا يجدر بهم التفكير بها مجددا)!

وبعد أن يبدي شيئا من الفخر بمسيحيته كنوع من التكفير المسبق عما سيضيفه يقول:(أعتقد ان على الأب باولو أن يتخلى عن مشروعه العقيم هذا في الحوار،إنه لا يعرف مالذي يفعله).

وهو رأي ستشاركه إياه في اليوم التالي (رولا) طالبة البكالوريا التي تملك كما تقول -على حداثة سنها- (ذكريات سيّئة) عن المشاحنات والملاسنات التي تجرها طروحات كهذه على كل من يتورط فيها.

ومن الطريف ان الأب باولو نفسه سيستشرف هذه الهواجس قبل شهرين بالضبط في مداخلة له على بعد 80كيلومترا إلى الجنوب من هذا المعتزل، هناك في دمشق وفي باحة المعهد الدنمركي، ردا في حينه على ما اعتبره استفزازا من أحد العلمانيين، حيث يستخلص وبإيجاز فيقول:(لعل من الأفضل اليوم أن نكتفي بتقدير بركة وجودنا مختلفين كما نحن، إنما متعايشين جنبا إلى جنب، وهو أمر يفضل بأشواط سعينا محاولين تحويل الآخر إلى ملتنا).

وبالعودة إلى المؤتمر والدير الذي يعود تاريخ إنشاءه إلى القرن السادس الميلادي؛ فقد ترك غياب بعض المحاضرين عن أعمال الندوات نتيجة كسل موروث أو هنّات في التنظيم، مساحة مـُلئت على عجل بالمزيد من حلقات الحوار والنقاش المصغرة، التي انبثت بعناصرها الشابة في كل أرجاء المكان من غرف وباحات ومغاور، حلقات جسدت في تشكلاتها الأولى تلمسا حذرا للآخر واستطلاعا للسقف والحدود، قبل أن تسترسل فيما بعد جسرا عبرت فوقه الخواطر والآراء بين المتجادلين، الذين لم تنقصهم بحال أي من أمراض الحوار وآفاته التي ورثوها بأمانة فذة عن آبائهم.

(حسنا، أنا لا أريد ان أصدر حكما على أولئك الذين يتسكعون الآن في هذه اللحظة في الشعلان بأنهم ضائعون أو تائهون أو بلا هوية، بالطريقة التي تريد بها ديمة أن تصور الأمور، لكنني سأسأل: إلى أين يتوجب علي أن أمضي بهويتي؟).

سؤال (محمد) هذا الذي أصرّ على طرحه جملة جملة، على الرغم من أنه كان قد استهلك لتوه الدقائق الخمس المخصصة له للحديث، استدعى احتجاجا عاجلا من طرف (جورج) الذي ذكره بما يشبه التأنيب بنقاش الأمس، من أنه لا يملك هوية واحدة، فهو -أي محمد- مسلم، وعربي، وسوري، وإنسان، و...، و(فيك ترتبهن على مهلك بعدين) يضيف (جورج) شبه مازح.

أما (ديمة) طالبة الصيدلة المنقبة، فلم تستغ بحال الدفاع عن أمثال هؤلاء الشباب (الشعلانيين) المنقطعين عن مستقبلهم حسب رأيها، (الذين لم يحاولوا أن يكملوا قراءة كتاب واحد في حياتهم)، وواصلت حملتها عليهم بمن فيهم أختها نفسها، لتقرر في النهاية(فعلت المستحيل، ولكن لاسبيل للتفاهم بيننا)، وذلك قبل ان تأخذ (ناديا) -نصف السوريةنصف الروسية- بناصية الحديث مؤكدة على فكرة صديقتها نفسها مضيفة إلى قائمة (ديمة) العصية على التواصل الجيل السابق برمته الذي (لا يستوعب التغيرات الحاصلة في العالم، ويريدنا بشكل مرضي ومرفوض أن نكون نسخة عنه).

أن تحكم على الشخص مما يظهره أو مما يظهر لك منه، أن تكون لك حال نافرة تسبطن أحوالا متعددة، أن توسع الخطا نحو الآخر، أو أن تتمهل لـيأتيك، أن ترث أهلك ممتنا، أو أن تجهد في إثرائهم على طريقتك، استخلاصات جائرة ربما، إنما حقيقية، وهي لا تعدو كونها حصيلة مؤقتة لسجالات لم يكن ليقطعها طوال الأيام الماضية سوى مؤونة النهار التي تتدبر(تيريز)، الخمسينية النزقة بمعجزة صغيرة كل يوم أمر تحويلها إلى وجبة حواريين محترمة، جنبا إلي جنب مع الأمسيات الموسيقية واستلهامات قرائح عازفين فرنسيين وسوريين في ساحة الدير أو بطن الوادي.

بيد أن الأطراف المدعوة إلى مائدة النقاش لم تكن لتتشاطر جميعها القدر ذاته من الحماس، إن لم نقل المسؤولية، فظهر بعضها وكأنه قد دخل المسالة من باب المجاملة ورفع العتب الفلكلوري، مما درجنا عليه في تقاليد لقاءاتنا، فبدا حضور هؤلاء أشبه بمن اعتقد أن مجيئه إنما كان لمجرد أن يلقي عصاه بثقة من يعرف أنها ستلتهم حيات الآخرين وحبالهم!

فلا نقاش، ولا تبادل رؤى أو أفكار، ولا مشاركة حقـّة، بذريعة أزلية هي ضيق الوقت.

كما كان من حال ما يفترض أنها مجموعة (جامع أبو النور)، التي تحللت بنظر كثيرين من جوهر اللقاء، وترفعت عنه.

ووقائع كهذه هي بالطبع برسم المنظمين مستقبلا، فإن كان لمشاركات أن تكون على هذه الشاكلة فعدمها أفضل وأخير لمبدأ التواصل نفسه.

تلفريك بدائي للحوائج، وستالايت، وحاسب شخصي، وخط إنترنت، وتغطية موبايل متوسطة الرداءة، وماء مسخن على الطاقة الشمسية، وجهاز عرض سلايدات، وهاتف ثابت، ودزينات متتالية من المتعبدين والحجيج والسياح الصرف، أشياء باتت على ما يبدو جزء لا يتجزأ من رهبانية هذه الأيام في دير مار موسى، حتى لتبدو ساحة الدير للناظر من زاوية من زواياها وكأنها لقطة مستعارة من أحد مقاهي باب توما المزدحمة أبدا!

من دون أن تنتقص هذه (العولميات) الطارئة بحال من جلال روح الصومعة ونسكها، معلقة بين خليج صخري هار، وسماء محفورة بالضوء والمجرات.

بيد أن الإخلاص المزمن والرغبة الصادقة من قبل المنظمين والداعمين لإنجاح الملتقى في مكان له مثل هذا الطقس الفريد؛ لم يشفع لهم في رأي مراقبين أنهم -من حيث دروا أو لم يدروا- اختصروا أبعاده الرحبة التي يشتمل عليها سؤال الهوية المتسع أفقه أبدا إلى بعد يتيم واحد هو البعد الديني، والذي على أهميته لشريحة واسعة من مجتمعاتنا اليوم؛ لا يشكل لشرائح أخرى في المجتمع ذاته السطر الأخير في محاولة الإجابة على ذلك السؤال، كيف والمعني هنا هم الشباب بالذات، خاصة وأنّ الملتقى في إطاره العام، سعى جاهدا للتركيز على البعد الثقافي للحوار، (أكثر منه على البعد الديني أو السياسي)، على ما جاء في متن الدعوة نفسها.

بل ذهب بعضهم إلى أن الانسياق وراء هذه الأحادية في التعاطي والتي كان الاقتصار فيها قاصرا والاختزال مخلا، سرعان ما جرّ بدوره إلى اختصارات أخرى لا تقلّ فداحة، كان ضحيتها الأولى التنوع الثقافي نفسه الذي بدأ الحوار على أساسه، ناهيك عن غياب الحديث عن الأطر القانونية والحقوقية، التي من المفترض بها أن تكون ناظمة لسير المجتمع وحراكه، كمبدأ المواطنة وتكافؤ الفرص أمام الجميع وعلمانية الدولة وغيرها، وهي ما يجدر حقا بشباب اليوم أن يكونوا على إطلاع عليها، ووعي بها.

لقد كان أمرا ذا دلالة بالغة أن ينبري أحد الشباب في جلسة من الجلسات التي استفحل فيها الجدل ليسكت الأب باولو وضيفه طالبا منهما نقل سجالهما خارج القاعة، لأنّ الشباب هم الذين من المفترض بهم أن يكونوا متكلمين هنا، وبدلالة لا تقل بلاغة؛ يضع القسيس الكهل كفيه على رأسه الحليق علامة الرضوخ.

نهاية ً، لايملك الهابط من دير مار موسى الحبشي في طريق عودته، إلا أن يبدي غبطته بما أسبغه ذلك المكان وأهله من رونق وغنى ميداني على موضوع النقاش في الهوية لدى الشباب، لدرجة أن ثمة من بادر بالتحسر علانية كوننا سننتظر سنة كاملة قبل أن نحظى بفرصة أخرى للقاء من هذا النوع.

بيد أن فتاة جميلة جالسة إلى جانبي كانت أول من تململ عندما تلقفتنا على حين غرة طلائع هواء الديزل على مشارف النبك مخلفين ورائنا الدير وعليل نسيمه، باغتتنا وهي بالكاد تعرف ما نتحدث عنه بالضبط بتعليق مقتضب.

(دينا) التي تحمل منذ بعض الوقت شهادة في التجارة، لم يتسنى لها حضور أي من ندوات المؤتمر أو نقاشاته، لكنها تعلم يقينا من حكمة غامضة أنّ (ما لا تستطيع القيام به هنا والآن، لن تنفعك هناك مشقة ارتقاء الدرجات الثلاثمائة والأربعين في تحصيله غدا).

مصادر
سورية الغد (دمشق)