انقضت ستة أسابيع على نتائج الحسم العسكري الذي حققته "حماس" وتتوج بسيطرتها التامة على "قطاع غزة". ومع ذلك، فما زالت الساحة الفلسطينية أسيرة هذا الحدث الاستثنائي، الذي يدفعنا للقول وليس للادعاء، بأن تداعيات ماحصل في منتصف شهر حزيران/يونيو المنصرم ستنعكس آثاره على مسار الحركة الوطنية الفلسطينية راهناً ومستقبلاً، وستتأثر بدرجات متفاوتة، طبيعة العلاقات الإنسانية الحميمة، التي شكلت المادة الصمغية للنسيج المجتمعي الفلسطيني عبر عقود من الزمن. إن مظاهر الأزمة الراهنة لم تتوقف عند ظاهرة "الحكومتين"، ولا في السجال العبثي المفتوح عن "الشرعية" ودور "المجلس التشريعي"، والاستحضار الوظيفي للهيئات المشلولة والفاقدة لمهامها ودورها منذ عدة سنوات كـ "المجلس المركزي واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير"، بل في تخطيها لـ" الخطوط الحمر" !التي تحولت إلى دماء حمراء نازفة. وقد جاء كل ذلك بالتزامن مع عمليات شحن النفوس والعقول، التي غذاها ذاك الكم الهائل من الإعلام المرئي والمسموع، وعلى مواقع الانترنت بين الطرفين المتصارعين. فالإشتباكات الدموية بين طلاب جامعتي " بير زيت و النجاح "، والأعمال الفظيعة والبشعة التي شهدتها بعض مناطق غزة والعديد من مدن وبلدات الضفة، تشير إلى امكانية الوصول للقطيعة الكاملة بين حركة "حماس" وقيادة "السلطة" في رام الله. إن رصد سلسلة التصريحات التي قذفت بها تلك القيادة في وجه المجتمع الفلسطيني، لاتعبر فقط عن فقدان التوازن السياسي، بل تكشف عن حالة الأزمة التي يعاني منها التيار الأوسلوي، الذي يعمل _ منذ سنوات _ على تسويق رؤيته العاجزة والقاصرة، عن "سلطة ذات سيادة". إن العبارات التي تحدث بها "محمود عباس" لأجهزة الإعلام عن (الانقلابيين الدمويين، والربط بينهم وبين "القاعدة") تشير إلى دلالات خطيرة، تأتي في مقدمتها تشجيع العدو الأمريكي/الصهيوني على تشديد الحصار على القطاع، وتهيئة الظروف عالمياً واقليمياً لعملية عسكرية واسعة تقوم بها قوات الاحتلال تحت دعاوي "ملاحقة الارهابيين وتنظيف القطاع منهم". وبذات الاتجاه، جاء كلام وزير الاعلام في حكومة الطوارىء وتسيير الأعمال "رياض المالكي" أثناء تعقيبه على أزمة "معبر رفح" التي يعاني منها آلاف الفلسطينيين ليفضح الدور الوظيفي لحكومة "سلام فياض" في تقديم المعلومات _ أو فبركتها _ للتحريض على أبناء الشعب (يوجد ضمن العالقين على المعبر، العشرات من المتشددين الذين تلقوا تدريباتهم في ايران ومن بينهم سيدتان).

إن المخرج الموضوعي من الحالة الراهنة، يتطلب تحكيم العقل الوطني في معالجته لمقدمات الحدث الاستثنائي. فالخطوات الإنقلابية لم تكن تلك الاجراءات المؤلمة التي عصفت بالقطاع في منتصف شهر حزيران، بل هي كل المسلكيات التي عَبّرت عن نفسها بأشكال من

الدعوة إلى "ترقيص حماس خمسة بلدي" وصولاً إلى الاشتباكات المسلحة المتعددة، والتي قد بدأت خطوات التحضير لها، مع الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية التي أدت لفوز حركة "حماس". إن عقلية المحاصصة الثنائية الفصائلية عبّدت الطريق إلى التسابق على سلطة موهومة، لاتمتلك مقومات البقاء والتحرك والتطور خارج إرادة المحتل، ولهذا فإن الخطوات المتلاحقة والمتسارعة التي أدت إلى هذا الإنقسام الجغرافي والإداري لايمكن علاجها بالمزيد من التفتيت المجتمعي والمؤسساتي، ولا بالهروب إلى الاستحقاقات التي تطلبها القوى الدولية والإقليمية المعادية لنضال شعبنا _ استخدام عبارات الاساءة للمقاومة المسلحة، وتحويل الفدائيين المقاتلين إلى "مطاردين وخارجين على القانون"، طالما لم يسلموا أنفسهم للأجهزة "الأمنية" الأوسلوية، واصدار فرمانات من أجل سحب السلاح المقاوم _ هذا السلاح الذي يتصدى للأعمال العدوانية الوحشية على شعبنا، كما برز قبل يومين في غزة. إن كل هذه الخطوات لاتعمل على تهدئة الأوضاع بمقدار ماتزيد من الإنقسام الداخلي، وتدفع بالمقابل إلى اصطفافات جديدة، وهو ماعبرت عنه الحالة الفصائلية المجتمعة (بيان القوى السبعة) بعد انفضاض جلسات المجلس المركزي في "رام الله" والتي باركت فيه الدعوة لـ(اجراء انتخابات مبكرة)، والتي أقدمت بخطوتها تلك على صب الزيت على جمر الأزمة. إن أية انتخابات _رغم عبثيتها وعدم جدواها في ظل الاحتلال _ لايمكن لها أن تحقق الهدف المرجو منها في ظل انقسام عام يعاني منه المجتمع وقواه السياسية، وفي اتساع رفض العديد من القوى لإجراء الانتخابات قبل التوافق الوطني حول العديد من القضايا الهامة.

إن الحوار الوطني _ ويجب التشديد دائماً على ضرورة أن يكون وطنياً _ غير المشروط هو المخرج الوحيد من الأزمة. لكن الملفت لنظر المراقبين، كان إصرار "محمود عباس" على إغلاق باب الحوار، والتنصل من الاتفاقات السابقة (اتفاق القاهرة نموذجاً) والإصرار على توسيع الهوة بين القيادتين في "رام الله وغزة". إن مطالبة حركة "حماس" بالتراجع عن نتائج حسمها العسكري، وتسليمها بشروط "قيادة رام الله" لايعدو كونه ضرباً من المستحيل. لكن قيادة حركة حماس مطالبة أيضاً بإجراء مراجعة نقدية موضوعية لمسيرتها، منذ قرارها بالوصول إلى "سلطة" استندت وقامت على أساس اتفاق أوسلو الذي ترفضه الحركة، ووصولاً إلى استخدام السلاح _ مع مارافقه من ممارسات بشعة _ بغرض حسم ازدواجية القرار والمرجعية. إن استمرار الحالة المأزومة والجاهزة للتفجير في كل ساعة، في مناطق الضفة وغزة، تكشف للجميع طبيعة المأزق العام الذي تعيشه قوى العمل السياسي، مما يدفع بكل الحريصين على حماية المشروع الوطني التحرري وعلى ديمومة المقاومة، العمل من أجل لعب دور فاعل ومؤثر في ضبط ايقاع الحركة السياسية.

إن حرص كل الوطنيين على "أن لايحفر شعبنا قبوره بأظافره" يتطلب تنظيف الحركة الوطنية من كل الأدران التي نشأت وترعرعت بها، والتوحد على برنامج وطني/ديمقراطي وتقدمي يصون وحدة المجتمع، ويرفع درجة الاستعداد لمجابهة العدو المحتل، وقَبْرِ كل مخططاته ومشاريعه.