من مفارقات الانتخابات التركية أن أغنياء الشعب التركي وفقراءه التفوا حول حزب العدالة والتنمية وانتخبوه بكثافة، ولم يستطع حزبا الشعب الجمهوري والحركة القومية المعارضان أن يكسبا لا ثقة الفقراء ولا الأغنياء، ولم ينجدهم سوى معظم الطبقة الوسطى التركية التي ما زالت تلتف حول «الإرث الأتاتوركي المزعوم» وتتغنى به، ولم يستطع الحزبان معاً أن يصلا سقف «35» من الأصوات مع نسبة أقل من عدد النواب.

بحيث لا يشكلان معاً الثلث «المعطل» في المجلس النيابي للقرارات أو التشريعات التي تحتاج لأكثرية الثلثين، وفي الوقت نفسه فشل اليمين التركي في الحصول على نسبة تساعده على الدخول إلى مجلس النواب، ولعل فشله هذا سيكون مؤبداً وسيشطبه من قائمة الأحزاب السياسية القابلة للاستمرار، واستطاع الأكراد أن يوصلوا إلى المجلس حوالي «23» نائباً للمرة الأولى منذ عدة عقود.

تؤكد نتيجة الانتخابات أن الناخب التركي لم يصدق أنها معركة بين أنصار العلمانية وبين الإسلاميين أو الراغبين بإقامة دولة إسلامية، ولذلك انتخب حزب العدالة والتنمية دون أن يخشى على العلمانية شيئاً يضيرها، ذلك لأن علمانية النظام السياسي التركي كانت في الواقع علمانية فظة مستبدة أعطت للمؤسسة العسكرية الحق بحكم البلاد حكماً استبدادياً تحت خيمتها، ومع أنها كانت تتحدث عن قيم الجمهورية التي تعني أكاديمياً وبديهياً «الديمقراطية، والمساواة، ومرجعية المواطنة، وحقوق الإنسان، والعلمانية» فإنها لم تطبق شيئاً من هذه القيم ومارست الاستبداد باسم العلمانية، وأعلنت عداءها للأديان والتدين والرأي الآخر والتعدد الثقافي والإثني، مع أنه من أوائل مهمات العلمانية احترام الرأي والأديان والتدين والتعدد بل والدفاع عنها.

وفي الواقع حولت المؤسسة العسكرية التركية قيم الجمهورية الديمقراطية خلال خمسين عاماً إلى قيم جديدة غير ديمقراطية ولا جمهورية على رأسها الاستبداد باسم العلمانية، وهذا ما كان يدركه المواطن التركي، ولذلك لم تقنعه الشعارات القائلة أن العلمانية مهددة بالإسلاميين الذين حسب زعم مطلقي الشعارات يخفون مخططاً سرياً لتحويل الدولة التركية إلى دولة إسلامية تشبه النظام الإيراني.

وقد كان رجب طيب أردوغان رئيس حزب العدالة والتنمية يدرك الفرق بين ما تعنيه شعارات العسكر واتباعهم من «العلمانيين»، ولذلك فرّق بين علمانية الدولة بنظر هؤلاء وعلمانيتها بنظره، وبيّن لهم المعنى الحقيقي لهذه العلمانية، وقد كانت أولى تصريحاته الإشادة بالتجربة الديمقراطية وتأكيد أن الإصلاحات الديمقراطية هي «أساس القيم الجمهورية في تركيا» وتعهد باحترام «القيم الجمهورية وفي مقدمتها العلمانية». فالعلمانية حسب وجهة نظره هي جزء من القيم الجمهورية التي يدعو إليها حزب العدالة والتنمية، وتقع في إطار سلة من القيم في الدولة الحديثة.

يبدو أن شعارات حزب الشعب الجمهوري «الحزب الذي أسسه أتاتورك» والتي نُفذت بشكل سيئ خلال الخمسين عاماً الماضية لم تعد تقنع الناخب التركي، ليس لمضمونها وإنما بسبب الأساليب التي طبقت بواسطتها والانقلابات العسكرية التي تمت خلال مسيرتها، وأدرك الناخب التركي أن أتاتورك نادى بقيم للجمهورية ليست العلمانية سوى واحدة منها، ولذلك نجد من المفارقات أن حزب العدالة والتنمية مثلاً غيّر في القوانين الناظمة لأحوال المرأة ومساواتها خلال خمس سنوات أكثر مما غيرت الأحزاب العلمانية خلال خمسة وسبعين عاماً، وتعامل مع القضايا الإثنية والقومية تعاملاً رحيماً ينطلق من الاعتراف لهذه الأقليات ببعض الحقوق الثقافية، مع تعامل أكثر إنسانية ووعد بتعامل ينطلق من احترام كرامة أتباع هذه الأقليات في المستقبل ولهذا أعطاه الشركس والأكراد والأرمن والمسيحيون أصواتهم لأنهم اقتنعوا بأنه يفهم العلمانية على حقيقتها ويحترم الأقليات ويؤمن بالتعددية وبالمساواة ويسعى لتطبيق حقوق الإنسان.

ولعل هذه من المفارقات، إذ كان من المفروض أن يتبنى حزب الشعب الجمهوري هذه الشعارات باعتباره يزعم العمل على بناء دولة حديثة تحترم قيم الجمهورية وتتعامل مع مواطنيها على قدم المساواة، بغض النظر عن منابتهم الطبقية والإثنية والقومية والدينية، جمهورية تؤمن بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان وتكافؤ الفرص. ولا شك أن نكوص حزب الشعب الجمهوري عن هذه الأهداف جعله يتراجع، ولم يبلغ ما حصل عليه من أصوات مع اليسار الديمقراطي مجتمعين إلا 20%، أما الحركة القومية التركية فيبدو أنها لم تدرك بعد أن الظروف تغيرت وأن المواطنة لا تقل أهمية عن الهوية، وأن الشعارات المتطرفة والعنت والصلف تزيد الأمور تعقيداً وتبعد حل مشاكل الأقليات، بل تجعلها تتفاقم وتهدد السلم الأهلي، ولم يبق لها من أتباع سوى بعض المتطرفين العنصريين الذين تجاوزتهم قيم العصر ومفاهيمه ومتطلبات الدولة الحديثة.

من المفارقات التي تثير الانتباه ترحيب بعض زعماء الدول الأوروبية بفوز حزب العدالة والتنمية، مع أن سياستهم في حقيقة الأمر معادية للإسلام والثقافة الإسلامية، لكن يبدو أن برامج حزب العدالة وممارساته خلال الخمس سنوات الماضية لم تعطهم أي مبرر لموقف آخر، فهي ممارسات عقلانية جادة منفتحة تفهم قيم الجمهورية وتسعى بإخلاص لبناء تركيا الحديثة وتتعامل باعتدال مع القضايا السياسية والاجتماعية، مما يقطع الطريق على تلك الدول الأوروبية المعادية لدخول تركيا المنظومة الأوروبية، لا لسبب إلا لأن ثقافتها مختلفة، هذا فضلاً عن النجاحات الاقتصادية التي تحققت خلال السنوات الماضية وخفض نسبة التضخم والبطالة والديون الخارجية.

وبهذه المناسبة يدور صراع داخل تركيا بين تيار يعمل لدخول الفضاء الأوروبي وآخر يريد لتركيا أن تتوجه نحو الشرق والشرق الأوسط خاصة ووسط آسيا، والمفارقة أن حزب العدالة والتنمية هو الذي تبنى الانتساب إلى أوروبا مع أنه حزب «إسلامي»، ذو ثقافة إسلامية، وأن حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية يميلان إلى تركيا شرق أوسطية وآسيوية ضد موقفهما التاريخي، ومن المفروض أن يحدث العكس، لأن الثقافة التي يتبناها حزب العدالة هي ثقافة مشرقية عكس الأخرى التي يتبناها الحزبان الآخران وهي ثقافة مستغربة. ولنتذكر أن أتاتورك مؤسس حزب الشعب الجمهوري هو الذي قرر تغريب تركيا فغير حروف الكتابة إلى الحروف اللاتينية وفرض اللباس الغربي والقيم والتقاليد الغربية، ومن الغريب اليوم حذر أنصاره من الانتساب إلى أوروبا، ولعلها مقتضيات السياسة والمصالح الانتخابية.

أما بالنسبة للعرب وقضاياهم ومصالحهم، فلا شك أن فوز حزب العدالة والتنمية فيه بعض الخير لهم، فقد حاول الحزب خلال السنوات الخمس الماضية أن يتبنى مواقف متوازنة تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، ورفض احتلال العراق، وطور علاقاته السياسية والاقتصادية بالدول العربية، ولم تعد تركيا حليفاً لإسرائيل كما كانت سابقاً، وهذا كله مدعاة للتفاؤل.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)