قبل أيام مرّت الذكرى ال55 لثورة 23 تموّز التي فجّرها ( الضبّاط الأحرار) بقيادة جمال عبد الناصر عام 52، والتي أرست حضورها بفضل المعارك التحررية والاجتماعيّة المصريّة: الجلاء، والتأميم، والإصلاح الزراعي، والثورة الصناعيّة، ومجّانية التعليم، وبناء السّد العالي، وتأميم قناة السويس، ومجابهة العدوان الثلاثي عام 56، و..القوميّة العربيّة: دعم ثورة الجزائر بالسلاح والمال والتعبئة الإعلاميّة، الوقوف مع ثورة العراق 58، وثورة عدن ضد الإنكليز، ودعم سوريّة ضد سياسة الأحلاف التي هدفت إلى جرّها بعيدًا عن خيارها القومي التحرري، الوقوف مع شعب لبنان ضد التدخل العسكري الأمريكي ونزول ( المارينز) على شواطئه عام 58، دعم وحماية ثورة المشير عبد الله السلاّل وجيش اليمن وخلع حكم الإمامة المتخلّف المتحجّر الذي حبس اليمن وحرمها من التطوّر، بناء منظمة التحرير الفلسطينيّة ودعم بروز الشخصيّة ( الوطنية ) الفلسطينيّة ردّا على محاولات الصهيونيّة العالمية وكيانها تغييب الشعب العربي الفلسطيني.

الناصريّة رجّت مصر، ورفعت شعارات التحرر في كل بلاد العرب، وما يرج مصر لا يمضي كحادث عرضي، إنه حدث (قومي) عربي، وليس حدثًا إقليميًّا محليّا مصريًّا.

في هذا العام أغرق فيضان النيل مساحات شاسعة من أرض السودان جار مصر، النيل الذي مصر هبته الخصبة، والحياة الممكنة، فبغير ماء النيل ما كانت مصر إلاّ صحراء تفصل بين بلاد العرب وأفريقيا السوداء...

مصر لم يفض واهب الحياة عليها مجتاحًا مدمّرًا كما حدث ويحدث للسودان حماه الله من مكائد إغراقه بغير ماء النيل. لم تغرق قراها، ومدنها، وحقولها بفضل السّد العالي الذي خاض ( ناصر) معركةً ضارية عالميّة حتى يبنيه لحماية مصر من العطش والجفاف والفيضانات. صحيح أن بعض قرى مصر عطشى، ولكن عطشها هذا يحدث في زمن سلطة الرخاء، والديمقراطيّة، وما بعد الانفتاح: زمن الانشكاح!

السّد العالي واحد من أعظم منجزات الزمن الناصري يحمي مصر من العطش، والفيضان.. وهذه حقيقة ثابتة تراها العيون، ولا يمكن إخفاؤها.. ترى: هل سيبيعون السّد العالي في زمن الخصخصة والانفتاح والليبراليّة الاقتصاديّة، انصياعًا لأوامر البنك الدولي المهيمن عليه أمريكيّا، بهدف محو الإنجازات الناصرية، لإفقار مصر، وتطيل قدراتها على المقاومة، ووضعها في حالة عوز وحاجة وتبعيّة؟!

الإنجاز الاستراتيجي الثاني الصامد حتى اللحظة: قناة السويس، التي أمّمها جمال عبد الناصر عام 56، وانتزعها من أنياب الغولين الاستعماريين المتوحشين: بريطانيا وفرنسا...

عام 89 ترافقت مع الصديقين: خلدون الشمعة، وياسين رفاعيّة، في زيارة إلى هيئة قناة السويس في (الإسماعيليّة)، تلبية لدعوة وجّهت لمجلّة (الدستور) التي كان خلدون رئيسًا لتحريرها، وياسين أحد كتّابها البارزين...

التقينا في القاهرة عندما كنت أشارك في الأسبوع الثقافي الفلسطيني، ووجدت في زيارة (الإسماعيليّة) رايح جاي في نفس اليوم، واللقاء مع شخصيّة كبيرة في الهيئة فرصة لا تفوّت.

استقبلنا بحفاوة ووضع تحت تصرفنا لنش أبحر بنا في (بحيرة التمساح)، ودخل بنا في قناة السويس، ووجدتني أغني بصوت عال مع دموع غزيرة:
ما أحلاك يا مصري وانت عالدفة
غنوا لو
وقولو لو
تذكرت أغاني التأميم، كلمات صلاح جاهين، صوت ( أم كلثوم)، وعبد الحليم و..عمالقة ذلك الزمن، وطلّة القائد جمال عبد الناصر، وهو يعلن في الإسكندرية: باسم الشعب تؤمم قناة السويس شركة مساهمة مصريّة...

آخ يا أيّام الكبرياء، آخ يا مصر!
قال لنا الرجل الذي استقبلنا، وهو مدير العلاقات العّامة في الشركة: نحن ندخل ثلاث مليارات دولار "كاش موني" للموازنة المصريّة بدون ما نتكلّف بمليّم! هذا ما تدرّه قناة السويس على مصر، القناة التي أممها جمال عبد الناصر، وسوف نعمد إلى تعميق القناة وتوسيعها بحيث تختصر رحلة السفن العملاقة عن طريق رأس الرجاء الصالح، وهذا يعني مئات ملايين الدولارات لمصر وشعبها...

تذكّرت ما قاله ذلك المواطن المصري الأصيل وهو من حرّاس المنجز الناصري، وأنا اقرأ عن دخل قناة السويس للعام 2006 _2007 والذي بلغ 4 مليارات و168 مليون دولار!
هذه بعض منجزات ثورة 23 تموّز الناصريّة!

سنة واحدة انتصار..
مرّت سنة على انتصار تموّز اللبناني، سنة وبضعة أيّام...

انتصار (المقاومة) والشعب اللبناني، المقاومة التي باتت الاسم الرمزي لحزب الله، دون أن ننسى دور من أسهموا في الانطلاقة.

قيادة تخطط، تعيش في الميدان مع شعبها ومقاتليها، تعرف دورها، تبني مقاتلين بمناقب تحبب الناس بهم، تعّد السلاح لمواجهة العدو الصهيوني الذي يحتّل الأرض، ويستبيح السماء، وينهب الماء، ويغلق الأبواب على (الأسرى) اللبنانيين وقدوتهم عميد الأسرى العرب البطل اللبناني سمير القنطار.

انتصار تموّز واضح لا لبس فيه، ولكن أعداء لبنان الطائفيين، والساسة المحترفين، والمتحكمين في بلاد العرب التابعين لأوامر إدارة بوش، الجاهزين لتقديم التنازلات لحكّام وقادة (إسرائيل) على حساب فلسطين، ولبنان، والعراق.. ينكرون هذا الانتصار، ويثلبونه، ويثيرون عليه الفتنة الطائفيّة لإغراقه في أحقاد مفتعلة، رغم أن أصدقاءهم (الإسرائيليين) رجّهم هذا الانتصار رجّا زلزاليًّا عنيفا،وأسقط جنرالاتهم، وهزّ ثقة (جمهورهم) المعتاد على انتصارات جيشه الذي لا يقهر، بالجيش الذي رآه يترنّح تحت صواريخ حزب الله، ويتجندل برصاص المقاومين في المواجهات وجها لوجه، وانفجارات الميركافا 4 فخر صناعة الكيان الصهيوني، وغرّق درّة بوارجه الحربيّة قبالة العروس بيروت...

مضت أربعون سنة وما زال المنظرون البائسون، والصحفيون المستأجرون، والمفكرون السطحيون ينظّرون لهزيمة حزيران 67، وعندما باغتهم انتصار لبنان: الشعب والمقاومة.. أسقط في أيديهم التي ارتجفت إلى حّد سقوط الأقلام منها وجلاً وذهولاً، هي التي اعتادت على التنظير عن عجز الإنسان العربي، وتخلّفه، وبطء تعلّمه...

مقاومة قليلة عدد الرجال والنساء، وشعب صغير، يحققان حالة صمود، وتضامن، شمال يحتضن الجنوب، بيروت تفرد ذراعيها للنبطيّة، ومرجعيون، ومارون الراس و...

لبنان يحقق المعجزة، ولبنان عربي ياسادة رغم أنوف الطائفيين، والإقليميين، والانعزاليين.. فما العيب في أن ينتصر؟ هل هو مذنب بانتصاره؟ أهو يحرجكم جميعاً يا من تشترون صفقات الأسلحة وتتقاضون المليارات سمسرة عليها، ولا تقتلون سوى المواطنين في (بلادكم) الخاربة، جوعًا، وتخلفّا، وبطالة، وغربةً...

أربعون سنة وأنتم تنظّرون لهزيمة حزيران!.. ها قد جاءكم نصر.. من مقاومة وشعب لبنان؟ فلماذا أصبتم بالبكم؟!

أولئك هم الذين يليق بهم أن يهزموا.. أما نحن المؤمنين بالمقاومة فنحن على العهد، نمضي متزودين بانتصار مقاومة لبنان، وشعب لبنان، بالروح التي تألقّت في حزيران وتموّز 2006، والتي ستبقى إلى عشرات السنين زادًا، ومرجعيّة، وإلهامًا.. لكّل عربي يقاوم، بله كّل إنسان على هذه الأرض...