ربما لم يكن ما تتعرض له أمتنا من حيث المواجهة التاريخية مع احتلالين كبيرين متحالفين، أمرا غريبا على التاريخ الانساني، لكن ما يبدو فريدا هو قدرة شراذمنا على التقاتل في معارك جانبية تؤمن التدمير الذاتي الذي يوفر على العدو كلفة تدميرنا. معارك جانبية تبدأ من أصغر الدوائر، من مثل معركة انتخابات قضاء المتن في لبنان، لتصل الى أكبرها من مثل الصراع السني - الشيعي الذي افتعل وتكرس على امتداد العالم الإسلامي. فإذا كان لكل قضايانا المصيرية وعلى رأسها القضية المركزية الفلسطينية بعد محلي وطني او قطري، فان لها بالتالي بعداً قومياً عربياً، وصلت بعده الى احتلال بعد أكبر هو البعد الاسلامي. وعليه كان من الطبيعي ان يعمل استراتيجيو الاعداء على خلق مشكلات مدمرة داخل كل من هذه الابعاد او الدوائر، لكن ما لم يكن من الطبيعي هو ان تتوصل الى النجاح في كل مخططاتها على جميع هذه الصعد.

ففي لبنان، يحاول جميع المخلصين ان يقنعوا الرئيسين ميشال عون، وأمين الجميل بالغاء الانتخابات الفرعية خوفا من أن تؤدي المواجهة الانتخابية الى مواجهة دامية لا يعلم أحد مخاطرها على البلاد كلها. هكذا تنكشف حجب ديمقراطية وهمية لا تقوم على حق المواطن وإنما على توازنات القبائل الطائفية او الفئوية القرسطوية. وهكذا تلتقي الاوضاع مع المعادلات التي حصلت في فلسطين، لتقصم ظهر الوحدة الوطنية التي لم ينفع الدم وخطر الفناء في لملمة أطرافها ولو بالحد الأدنى المطلوب، ولتجعل ساطور الفرقة يشطر الجسد المشطور أصلا الى فصيلين.

نموذجان يتجسدان اكثر في الحالة العراقية السوريالية من دون أن يكون حال بعض الدول العربية الاخرى التي لا تشهد حروبا عسكرية، بأفضل. ولعل ابلغ الامثلة على ذلك مسألة المساعدات الأمريكية ل “إسرائيل” والتي تفوق الثلاثين مليار دولار، واتفاقية حول تطوير صواريخ باليستية لمواجهة صواريخ المقاومة اللبنانية، ونوعين آخرين من الاسلحة “الإسرائيلية” المنتجة بالاشتراك مع شركتي بوينغ الأمريكيتين. ما يجعل واشنطن و”إسرائيل”، اكثر قدرة على الضغط على المقاومة اللبنانية وغزة، ضغط قد يصل حد شن حرب من نوع أو آخر على لبنان او على سوريا ان لم تنجح مسألة التصفية السياسية، هذا في الوقت الذي يبشرنا فيه كوشنير بحرب اهلية جديدة في بلاد الأرز. كما يجعلها اكثر قدرة على اللعب داخل قوى وفصائل المقاومة العراقية لإجهاض وحدتها التي لم تكد تتشكل بعد، وللاستفراد بها واحدة واحدة، عبر جرها الى العملية السياسية أولا، ضمن شروط لا ترقى الى مطلب التحرير واستعادة السيادة، ومن ثم عبر التصفية العسكرية.

وبملاحظة هذه المعادلات العجيبة في تعقيدها، ننتبه الى مسألة بسيطة وواضحة، وهي أن كل هذا اللعب لم يكن ممكنا لولا الاكتشاف العبقري للمواجهة السنية - الشيعية على الساحة الإسلامية، والوصول إلى سياق من العداء تتحمل مسؤوليته إيران من جهة، وبعض القوى العربية، من جهة أخرى، والتي ترقص كلها بوعي او غير وعي على إيقاع الطبلة الأمريكية في عيد الفطر اليهودي المعجون خبزه بالدم العربي.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)