في بادرة غير مسبوقة أو نادرة الحدوث قامت وزيرة الخارجية الأميركية الآنسة كوندوليزا رايس ووزير الدفاع روبرت غيتس بجولة على عدد من دول المنطقة، والتقيا وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة الى ممثلين عن عدد آخر من الدول. واللافت في الأمر أن «الثنائي الأميركي» الذي جمع بين الجانبين الديبلوماسي والعسكري يمثل تحولاً نوعياً في أسلوب التعاطي الأميركي مع دول المنطقة.

وفي ضوء فشل العديد من الطروحات والتوجهات التي سبق للإدارة الأميركية الحالية أن تقدمت بها وانتهت الى فشل، وإذا أردنا اختيار تعبير ملطف لوجب القول أن هذه الطروحات الأميركية لم يحالفها النجاح.

ويشعر الرئيس جورج دبليو بوش أنه بات في سباق محموم مع الزمن لتحقيق بعض الإنجازات قبل مغادرته البيت الأبيض بعد سبعة عشر شهراً.

وتزامنت جولة الوزيرين رايس وغيتس مع إعلان واشنطن تزويد عدد من الدول العربية بمختلف أنواع الأسلحة المتطورة بغية تأمين الحماية لهذه الدول من الأخطار التي تشكلها مجموعة دول كإيران وسورية تحديداً، أو جماعات لـ « حزب الله « و «حماس».

وتنتقل الصحافية الأميركية المعروفة روبين رايت في صحيفة «واشنطن بوست» أن هدف زيارة وزيري الخارجية والدفاع معاً، إبلاغ زعماء المنطقة بما يأتي: «إدعموا العراق كحزام ضد إيران أو واجهوا العيش تحت ظل النفوذ الإيراني المتزايد».

وفي السياق نفسه، يعتقد بروس ريدل المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «بان التحالف الإيراني مع سائر الأطراف بات أكثر فاعلية خلال السنوات الخمس الأخيرة». ويضيف: «في ظل عدم وجود حزام فاصل الى الشرق أو الغرب، تزايد النفوذ الإيراني بشكل طبيعي. والسبب في ذلك يعود الى أخطاء الجانب الأميركي أكثر منه الى اي استراتيجية إيرانية بارعة».

ويترافق التحرك الأميركي السياسي والاستراتيجي مع الإهتمام الأميركي الموسمي بأزمة المنطقة وتحديداً بعملية السلام العربي والإسرائيلي. وفي عرض سريع لمواقف واشنطن من عملية السلام يتضح الخط البياني لطروحات الرئيس بوش انطلاقاً من اعلان التزامه القاطع العمل على قيام دولة فلسطينية ودولة إسرائيلية ..... جنباً الى جنب. وتعهد قيام هذه الدولة في مهلة أقصاها العام 2005، لكن الآمال تلاشت والمواعيد تبخرت بفعل تبويب الأولويات بالنسبة للإدارة الأميركية حيث ركزت كل جهودها على غزو العراق.

والآن يريد الرئيس الأميركي أن يطرح ورقة عملية السلام من جديد عبر الدعوة الى مؤتمر للسلام في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل في الولايات المتحدة، كما تفيد بعض المعلومات. لكن الذي لم يتمكن الرئيس بوش من فعله وتنفيذه والإشراف على متابعته خلال ست سنوات من حكمه، هل سيكون باستطاعته تحقيق «معجزة السلام الشرق أوسطي» بما تبقى له من إقامة في البيت الأبيض؟

وفي محاولة لتقليب صفحات في مفكرة أحداث المنطقة، نتذكر ولا شك التصريح الشهير لرايس مع إندلاع حرب تموز (يوليو) الماضي على لبنان، والذي قالت فيه «إنها بداية المخاض العسير لولادة شرق أوسط جديد»!.

فهل أن القابلة الدكتورة رايس تتابع مهمة الإشراف على مرحلة أخرى من مراحل هذا المخاض؟ واستطراداً والأهم من كل ذلك: أي مولود سينبثق عن عملية المخاض العسيرة هذه: شرق أوسط مستورد وتدريب حكامه وأهله على «التطبيع» معه؟ أم هو الشرق الأوسط «المتطرف» الذي تخشى أميركا أن يكون على وشك الولادة؟

ويبدو أن رايس ترى رؤوساً يانعة وقد حان قطافها في المنطقة. إذ هي قالت مع بداية جولتها الأخيرة: «إن المرحلة مليئة بالفرص وآن الأوان لاغتنامها. وعلينا التقدم بحذر لأننا لا نريد تفويت هذه الفرص بسبب نقص استعداداتنا». فهل أرادت رايس أن تقول لنا ولأهل المنطقة أن خطط بلادها هي جادة وجدية أكثر من الخطط السابقة التي جرى التداول بشأنها».

ويأتي هذا الكلام الذي يعزز في قسمة العرب وفي شرذمتهم أكثر فأكثر عندما تميز بين الدول العربية المعتدلة والدول المتطرفة. ومن غير الواضح حتى الآن ما إذا كانت الدول العربية قد ارتضت لنفسها هذه التسمية (العرب المعتدلين) أم أن الظروف تقتضي الإفادة من « كرم أميركا « في تزويد عدد من الدول الخليجية والعربية بالأسلحة المتطورة التي تملكها من مواجهة إيران وسورية و»حزب الله» ومجموعات الممانعة الأخرى.

وفي الحديث عن الاعتدال والتطرّف سوف تدرك رئيسة الديبلوماسية الأميركية التي اتخذت لنفسها في هذه الجولة لقب «الجنرال رايس»، فيما قام غيتس بالكلام الهادىء الذي يغلب عليه الأسلوب السياسي والديبلوماسي أكثر من الأسلوب العسكري، إذن سوف تكشف أن الواقع الراهن للمنطقة يندرج وفق الطرح التالي: «هناك التطرف المعتدل... وهناك التطرف الأكثر تطرفاً».

وفي معرض مناقشة التوجهات والمشاريع الأميركية الجديدة، يذهب بعض المتابعين عن قرب لمسار الأحداث أن تزويد دول المنطقة بهذه الكميات من الأسلحة، ولو جرى التأكيد على أنها ستكون للدفاع عن النفس ضد دولة كإيران وكسورية، من شأنه أن يعيد منطقة الشرق الأوسط برمتها الى سباق محموم للتسلح. يضاف الى ذلك أن ربط المساعدات العسكرية للرد على إيران وغيرها من دول «محور الشر» يعني عملياً الإعتراف بالقدرات العسكرية التي تتمتع بها إيران وسورية و»حزب الله».

وفي رأي لمسؤول أميركي سبق له أن عمل سفيراً لبلاده في المنطقة وانتقل الى سنّ نهاية الخدمة، ان وقوف الولايات المتحدة الى جانب بعض الدول العربية سوف يُدخل المنطقة في حلقة السباق والتنافس على عقد صفقات بين هذه الدول وأميركا، وستكون الإدارة الحالية في واشنطن في سباق « تجاري « و «مصلحي» يعوّض لميزانيتها الكثير من الذي أنفقته على الحرب في العراق.

كل هذا يعني أن المنطقة بكاملها ستكون فريسة السباق المحموم لاستدراج سباق تسلح، الأمر الذي سيرغم إيران على زيادة الإنفاق على قدراتها الدفاعية لمواجهة «هجمات أميركية محتملة بسبب الخلاف النووي» أو أي سبب آخر. بل ويذهب بعض المتابعين بدقة لهذا المسار الى أن أحد أهداف الخطة الأميركية الجديدة إرغام إيران على الإنفاق على برامج التسلح لديها وهذا من شأنه أن يعمّق من الأزمة المالية التي تشكو منها طهران هذه الأيام.

وعلينا أن نتذكر دائماً أن العامل المحوري في التحرك الأميركي الجديد يتركز على كيفيته في العراق: كيفية إنقاذ القوات الأميركية والاضطرار الى سحبها ولو بشكل تدريجي خاصة وأن غيتس حمله معه في جولته الأخيرة في المنطقة (مع رايس) تتضمن خطة الإنسحاب السريع الذي يمكن أن يفترضه مسار الأحداث في العراق.

وفي الصور المتداخلة:

• حضور رايس وغيتس الى المنطقة للعمل على «إنقاذ بغداد» يعيد الى الأذهان بصورة من الصور «خلف بغداد» بين الخمسينات والستينات. واليوم تتركز الخطط والتحالفات العسكرية منها والسياسية «من أجل بغداد».

• كشف السناتور جوزف بايدون الطامح الى تولي وزارة الخارجية في حال فوز الحزب الديموقراطي، وهذا هو الأرجح، وثيقة متكاملة لتقسيم العراق الى ثلاث دويلات مربوطة بشكل ضعيف ببعضها البعض وهي « كردستان» و «شيعستان» و «سنستان». ويقول أنه عرض هذا الحلّ على بعض العاملين في الأمم المتحدة، لكنه رُفض. ثم أعاد الكرة ثانية ويؤكد أنه لمس تأييداً للفكرة في الأمم المتحدة. ويقول بايدن: «أن التقسيم الناجح للعراق لن يكون سهلاً إذ يتطلب الأمر تشاوراً مع جيران العراق، بما فيهم إيران والمملكة العربية السعودية ناهيك عن الحساسيات القومية في تركيا». ويختم بالقول: «أن الولايات المتحدة ستجد نفسها عاجلاً أم آجلاً تتوسط لتنفيذ التقسيم».

• السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة زلماي خليل زاد حطّم الأرقام القياسية في سرعة تبديل قناعاته وتصريحاته. ففي يوم واحد وعبر أجهزة إعلامية مختلفة اتهم السعودية بعرقلة الأمور لاستتباب الوضع في العراق، ثم عاد لينفي ويصحح مشيداً بدور الرياض في إرساء الإستقرار في المنطقة والعراق. لكنه عاد ومضغ تصريحاته السابقة وعندما سئلت رايس خلال وجودها في جدة عن هذا التضارب في مواقف خليل زاد، تحاشت الإجابة بشكل واضح والسبب (الجاهز أبداً) أنها لم تقرأ التصريحات لكي تعلق عليها. وعلى خليل زاد أن يحدد موقفه الأخير من هذه المسألة حتى لا يجري الترحم على سلفه جون بولتون السيء الذكر.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)