السلام من وجهة نظر مبعوث الرباعية الدولية توني بلير "يبدأ بالاقتصاد"، ولكي يبدأ السلام البليري هذا، توافق صاحبه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت فوضعا معاً، أثناء زيارته الأخيرة للمنطقة، خطة اقتصادية الهدف منها كما أعلن تسهيل الحل السياسي للصراع في فلسطين. الخطة وصفتها صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، والتي سرّبت عبرها، بأنها "مبادرة اقتصادية إسرائيلية فلسطينية دراماتيكية"، ولعل دراماتيكيتها تكمن في كونها خطة لتمويل فصل الضفة المحتلة عن قطاع غزة المحاصر حتى يحين استعادته من حماس بكافة السبل التجويعية والاختراقات الدموية وإثارة الفوضى الخلّاقة بين أطنابه. وهذا التمويل، بهدف تعميق الفصل في سبيل الاستعادة، الهدف منه، كما روت معاريف على لسان بلير وما بدر حاشية أولمرت، هو "إظهار الفارق" بين حال غزة الجوعى المهيمن عليها من قبل حماس، و حال الضفة المحتلة الموعودة بالرفاه تحت جناح الفريق الرئاسي من السلطة. وذلك بإحداث هذا الفارق المراد إحداثه بين المناطق التي يسيطر عليها "الإرهاب والعنف"، وتلك التي يؤمل أن تجري فيها "مسيرة سياسية"، وفق ذات الرواية. وعليه تقضي الخطة العتيدة، التي " تحظى بتشجيع من إسرائيل والسلطة واستثمار مالي من الخارج "، بأن يُعقد خلال الأشهر القريبة القادمة "مؤتمر كبير بحضور خمسين من كبار رجال الأعمال في إسرائيل إلى جانب خمسين من نظراتهم الفلسطينيين في السلطة الفلسطينية"، تؤول نتائجه بأن "ينقض رجال الأعمال على مشاريع مشتركة"، وفق تعبير الصحيفة، وسيكون الهدف من هذا الانقضاض من قبل هؤلاء المائة "الرائدين"، وفق توصيفها لهم، هو "تجنيد الأموال والقدرات للاقتصاد الإسرائيلي مع القوة البشرية الرخيصة في السلطة الفلسطينية".

بلير الذي تشارك في رسم خطته الانقضاضية هذه مع أولمرت، أو كما تقول، معاريف أنها إنما "طرحت وبلورت" إبان لقائهما الأخير، بحثها أيضاً مع رئيس حكومة "تسيير الأعمال" في سلطة الحكم الذاتي الإداري، التي أعقبت ما كانت حكومة "الوحدة الوطنية" بعد أحداث غزة، سلام فياض، هذا الذي حسب "معاريف" يؤمن هو الآخر، وهو رجل الاقتصاد القادم للسياسة من أروقة البنك الدولي، " بالفارق الذي يمكن للاقتصاد أن يحدثه بين غزة والضفة"... وكل ذلك عملاً بالشعار الذي عنونت معاريف به ما سرّبته ألا وهو "السلام يبدأ من الجيب"!

في انتظار بركات السلام البليري الموعود التي سوف تمتلئ بها جيوب من ينتظرها، سيعود بلير إلى القدس المحتلة قريباً ليقود منها محاولاته السلامية الدراماتيكية، وفي خطوة لا تخلوا من رمزية يطالب رئيس الوزراء البريطاني السابق "بالإقامة في قصر المندوب السامي البريطاني في القدس" إبان الاحتلال البريطاني المعروف بالانتداب على فلسطين بعيد نهاية الحرب العالمية الأولى، هذا الانتداب الذي سبق تسليمها قبل رحيل هذا الاحتلال عنها إلى اليهود، وفق ما أملاه واقتضى تنفيذه "وعد بلفور" الشهير، وذلك لإقامة إسرائيل على أنقاضها بعد تشريد أهلها.

هذه المساعي البليرية غير الحميدة تتجلى خطورتها بوضوح عندما نتوقف عند ما كشفته ذات الصحيفة الإسرائيلية من أن خطة أولمرت، تلك التي سبق وأن تعرضنا لها في المقال السابق، المسماة "إعلان مبادئ" أو هذه التي هي في الجوهر لا تعدو الفصل من جانب واحد، إنما تهدف لتحقيق فكرة "الدولتين" البوشية إياها، الهادفة إلى تخليص إسرائيل من الديموغرافيا الفلسطينية، وأعباء الاحتلال المباشر. بمعنى السماح بنوع من دويلة فلسطينية بلا حدود أو تواصل أو سيادة، في الضفة والقطاع، ناقص القدس الكبرى، وكتل المستعمرات الكبرى، وما ابتلعه ما يسمى بالسور الواقي. ودونما التعرض لمسألة حق عودة اللاجئين إلى ديارهم المرفوض مجرد بحثه إسرائيلياً... والأهم أن هذه الخطة بتفاصيلها ومراميها، ولعل هذا ما يدلل على تلك الخطورة أكثر، قد "عرضت ونوقشت بإسهاب مع بلير في زيارته الأخيرة"!!!

وإذا كان الرابط بين سلام الجيوب البليري وإعلان المبادئ التصفوي الأولمرتي واضح هنا ويكمل واحده الآخر، أو هذا هو المطلوب، فما علاقتهما يا ترى بتحرك كونداليسا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية الأخيرة في المنطقة، يرافقها ويكمل حركتها وزير الحرب روبيرت غيتس؟!

إن العلاقة الناظمة التي تربط بين مهمة بلير وخطة أولمرت وحركة رايس، وكنا قد عالجناها في المقال السابق، هي بينة وأكثر وضوحاً، لقد جاءت الوزيرة والوزير إلى المنطقة تحت يافطة ما عرف بمؤتمر بوش أو لقاءه الدولي المقترح، هذا المرجح عقده في واشنطن برئاسة الوزيرة رايس، وبحضور سيد البيت الأبيض للأشهر المتبقية من ولايته القادمة... حضور الرئيس بوش،كما قيل، هو لإعطاء اللقاء المسمى مجازاً بالدولي الذي يقتصر على طرفي الصراع ويحضره عرب منتقين وبلير ممثلاً للرباعية، أهمية أكبر أو زخمه الذي ينقصه...أي أن رايس جاءت في سياق ما يقال أنه المسعى الأمريكي المفترض لحل ذلك الصراع تحت يافطة هذا اللقاء البوشي المزمع، أي في حقيقة الأمر بهدف تهدئة هذه الجبهة الملتهبة لأكثر من قرن للتفرغ لمسألتين: الأولى، معالجة الورطة العراقية أو تداعياتها الأمريكية الداخلية، حيث أعلن مؤخراً أن تكاليف الحربين في أفغانستان والعراق لهذا العام هو: 135 مليار دولار، وأنها سوف تزداد العام القادم لتصل إلى 142 ملياراً، هذا فيما يتعلق بالكلفة المادية، أما البشرية فهي مسألة أخرى، والأهم أن المعارضة في الكونغرس هي إلى ازدياد، ليس في الجانب الديمقراطي فحسب، وإنما الجمهوري أيضاً، إذ أن زعيمة المعارضة الديمقراطية بيلوسي أعلنت مؤخراً عن مشاريع للتصويت في مجلس النواب هدفها تشجيع "انفصال المزيد من الجمهوريين عن معسكر بوش"!

وهذه المعالجة، أو محاولة الخروج من الورطة، إنما هي الوجه الآخر لإنقاذ المشروع الأمريكي في العراق، وليس التخلي عنه بأية حال من الأحوال، وهذا يقتضي، إلى جانب توالي مسلسل المبادرات الإيهامية ذات المنحى التصفوي في فلسطين، تفضي بنا إلى الهدف الثاني وهو حشد ما يصفهم الأمريكان ب"المعتديين العرب"، ما أمكن، لمواجهة الخطر الإيراني البديل المفترض للخطر الإسرائيلي، أو المراد له أن يحل محله. ومن هنا رافق غيتس وحاملة الطائرات "أنتربرايس" رايس في جولتها في المنطقة، وجاء الإعلان عن بيع أسلحة بالمليارات لمن يعتبرهم الأمريكان "الشركاء الاستراتيجيين" من العرب، حيث أن الهدف الأمريكي المنشود والمعلن من ذلك، إنما هو، كما قالوا، "لتعزيز قوى الاعتدال، ولدعم إستراتيجية أوسع نطاقاً هدفها التصدي للتأثير السلبي للقاعدة وحزب الله وسورية وإيران..!

حركة رايس أو مهمتها في جانبها الفلسطيني تهددتها في الظاهر أربع لاءات إسرائيلية فورية، سمعت ثلاثاً منها من نظيرتها ليفني، وهي قطعاً لم تفاجأ بها... كانت رفضاً قاطعاً لمجرد بحث ما يعرف بالملفات الرئيسية: الحدود، اللاجئين، والقدس... والرابعة سمعتها من أولمرت: أنها لا انسحاب من مناطق في الضفة الغربية وتسليمها إلى السلطة من دون "ضمانات أمنية ملائمة"... وشرط خامس أيضاً، هو: "بقاء حماس خارج اللعبة"!

... قالتها ليفني وسمعتها رايس، ولن يفسد هذا، بالنظر لجوهر مرامي الحركة الرايسية، للمتوافق عليه بين الحليفين قضية... قالت:

"أحياناً ليس من الحكمة أن نطرح على الطاولة المواضيع الأكثر حساسية"!

إذن ما الذي سيطرح؟!

إنه وهم سلام الجيب البليري الدراماتيكي، الداعم لإعلان المبادئ الأولمرتي المراوغ التصفوي، والمدعومان، بذريعة مبيعات الأسلحة المزمعة للعرب، بزيادة 25% إضافية للمساعدات الأمريكية لإسرائيل، ومنحها ما قيمته 30 مليار دولار، أسلحة وأعتده وتجهيزات متطورة ترفد آلتها العسكرية الضخمة خلال العشر سنوات القادمة، وبانتظار مؤتمر إيهامي

... فالمطلوب هو مبادرات من هذا النوع للتهدئة على جبهة الصراع المزمن... التحشيد لدرء خطر مفترض كبديل لخطر ماثل ودائم... والتفرغ لمحاولة الخروج من الورطة العراقية، بما يكفل نجاح المشروع المتعثر في المنطقة، ويضمن البقاء فيها كهدف استراتيجي ومصيري بالنسبة للإمبراطورية المستميتة في محاولاتها البقاء قطباً واحداً مهيمناً يتحكم في مصير العالم لأطول مدة ممكنة... على الأقل ما بقي بوش في البيت الأبيض!!!