درجت عبارات بل شعارات التطوير والإصلاح في السنوات الخمس الأخيرة على لسان معظم مسؤولي الحكومات والأحزاب والتيارات السياسية العربية الموالية والمعارضة، وصار نادراً ما يخلو أي تصريح لمسؤول عربي سواء كان موالياً لحكومة بلاده أو معارضاً لها من هذه الشعارات، حتى توقعت الشعوب العربية منذ مطلع القرن الحالي أنها ستجد طريقها للتطبيق ويتاح عندها للمجتمعات أن تبدأ السير الجاد في طريق التنمية الشاملة متعددة الجوانب.

وستجسر الهوة بين واقعها وبين واقع الشعوب الأكثر تقدماً خلال سنوات قليلة، وأخذ المواطنون في البلدان العربية يحلمون بقرب تحول أو تحويل أنظمتهم السياسية من أنظمة استبدادية أو شمولية أو أحادية في معظمها، إلى أنظمة ديمقراطية تسير خطوات جوهرية في طريق تحقيق الديمقراطية.

ونقل مجتمعاتهم أو انتقالها إلى مجتمعات متطورة مزدهرة تتحقق فيها المساواة والحرية والتعددية والتنمية في المجالات الاقتصادية والثقافية والتعليمية وغيرها، وتتاح لها الفرصة لمراجعة تراثها وقيمها الحالية وعاداتها وتقاليدها وأنظمة حياتها.

فيزدهر الاقتصاد وتتراجع مستويات خطوط الفقر وتتدنى نسب البطالة وتتجدد الثقافة الوطنية وتتطور مناهج التعليم، وتعيد المجتمعات بناء نفسها على أسس جديدة صحيحة وصحية، مستفيدة من ثورة المعلومات والتقانية وتفجر وسائل الاتصال وانتشار العولمة، ومن نظام اقتصاد السوق الاجتماعي، وبالإجمال أملوا أن تتاح للمجتمعات العربية فرصاً لتجاوز التخلف وتعويض ما فاتها.

لكن «حساب الحقل لم يتطابق مع حساب البيدر» كما يقول المثل العربي، فقد تعاملت أنظمتنا السياسية وأحزابنا وتجمعات الموالاة والمعارضة في بلادنا، مع قضية التطوير والإصلاح برمتها وكأنها محصورة بالإصلاح السياسي فقط وهذا لم يتحقق شيء منه.

لأن غالبية الأنظمة السياسية القائمة رأت فيه عاملاً من عوامل أفولها فحاولت الالتفاف عليه وإقصاءه، وتوقفت أحزاب المعارضة وقواها بدورها عند هذا الإصلاح باعتباره أساس كل تطوير معتبرة أنه لا يمكن تحقيق أي إصلاح آخر بدونه، ورغم صحة رأيها ورؤيتها حول أهميته إلا أن توقفها عنده وعزوف الأنظمة عن تطبيقه أبقى الجمود قائماُ، حتى أن بعض الأنظمة السياسية سمت هذا الجمود القاتل (استقراراً)، وهو ليس إلا استقراراً واستمراراً لسيطرتها.

وبقي الحال كما هو والأمراض الاجتماعية تفعل فعلها في مجتمعاتنا، والجميع ينتظر والمجتمعات تتراجع والتخلف يستوطن ليس فقط في عمق حياتنا وإنما أيضاً في عمق ثقافتنا ووعينا كأفراد، ولم نعد نستاء من أية ظاهرة تخلف سواء كانت كبيرة أم صغيرة، أو بالكاد نستاء لأننا كما يبدو اعتدنا عليها وتمثلناها وغدت جزءاً من آلية حياتنا وأنماط عيشنا وتقاليدنا.

أصر بعض أنظمتنا السياسية على القول بالتطوير بدلاً عن الإصلاح، لأن الإصلاح يعني وجود خلل لابد من معالجته وهذا ما لا تريد هذه الأنظمة الاعتراف به، لأنه يكشف العورة، أما التطوير فيعني أننا نتقدم ولكن نحتاج للمزيد وهذا أخف وطأة.

ورغم تلاعب ذوي الشأن بالكلمات والمصطلحات والمفاهيم فإننا بحاجة لإصلاحات جوهرية وجدية فلا ينفعنا التطوير ولا مجال له، فماذا يمكن أن نطور في حال (مائل) كحالنا وفي مجتمعات يغشاها الخلل ويهيمن عليها التخلف والجهل والهوان والفقر وسوء التغذية، فضلاً عن السحر والشعوذة وتكلس التراث وتجاهل تجديد الثقافة والخطاب الثقافي أو إصلاح مناهج التعليم التي لم تعد تصلح لعصرنا ولا تساعدنا على التقدم العلمي والمعرفي.

وقبل ذلك وبعده عدم الاتفاق على مرجعية واحدة يقبل بها الجميع تؤطر معايير المساواة والتكافؤ والحقوق والواجبات، وتجبّ المرجعيات الأخرى الطائفية والإقليمية وما شابهها العالقة في أجسام مجتمعاتنا تساهم في تفتيتها وتهيئ الفرص المناسبة لنشوء العنف والانقسام واشتعال الحروب الأهلية وقلب الأولويات.

لاشك أن الإصلاح الجدي والشامل يعني أول ما يعني تحقيق الإصلاح السياسي والقبول بمعطيات الدولة الحديثة وشروطها، وإعطاء تطبيق الدستور والقانون الأولوية حقاً وصدقاً لا قولاً وتشدقاً واحترامها بدون تردد، وبالتالي جعل الحقوق والواجبات العامل الفصل بين المواطنين بعضهم تجاه البعض الآخر وبينهم وبين الحكومات.

لكن الإصلاح السياسي وحده لا يكفي لحل مشاكل مجتمعاتنا لأنها بحاجة إلى إصلاحات تطاول مختلف جوانب الحياة على التوازي لا على التتابع، ونحتاج لجهد كبير وزمن طويل لتحقيقها، فكيف إذا كانت حتى الآن غائبة عن حياتنا وممارساتنا وبرامجنا؟

لم يعد ممكناً أن تستطيع شعوبنا وأمتنا العيش والاستمرار في عصرنا وبين مجتمعات الأرض الأخرى، مادام يسود فيها الفقر والبطالة والخوف من المستقبل وسياسات التعليم المتخلفة والتقاليد الاجتماعية العتيقة، وتجاهل الحرية والديمقراطية والمساواة.

لأن ذلك سيولد الإرهاب والعنف في مجتمعاتنا وثقافتنا ويجعل من المستحيل علينا اللحاق بركب التقدم، ذلك أن تطور العالم يسير بسرعات هائلة وغير مسبوقة وتطورنا يسير بطيئاً بطء السلحفاة، ولا يغرننا أننا نسير إلى الأمام، فالفجوة بيننا وبين المجتمعات المتقدمة تتسع وتزداد تخلفاً كل عام.

المفارقة أن مجتمعاتنا العربية تمتلك من حيث المبدأ شروط التقدم ومستلزماته، فموقعها الجغرافي، وثرواتها الطبيعية، وثقافتها العريقة، وحيوية شعوبها، وقدرات مواطنيها وغيرها من الأسباب تؤهلها لتحقيق النهضة، فلماذا لا ننهض؟

يبدو أن الاستبداد وتجاهل المساواة ورفض الرأي الآخر وعدم الشعور بالمسؤولية وتداخل مفهوم الدولة مع مفهوم الحكومة الذي قدم لنا «السلطة» بديلاً عن المفهومين معاً، وأدى إلى الفساد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وأتاح الفرصة لترسيخ نمط الحياة والتقاليد الاستهلاكية ودخولها أدق تفاصيل حياتنا، فضلاً عن الغزو الثقافي والاستكانة للآخر..

هذه جميعها أوصلتنا إلى ما نحن فيه، وأصبحت عقبة كأداء في طريق الإصلاح بل في طريق التطوير كما يحب حكامنا أن يسموه. وأخذنا نعتقد أكثر فأكثر بأن هذا ما كتب الله لنا، ونسينا متعمدين أن «ليس للإنسان إلا ما سعى».

حقاً إن الإصلاح السياسي هو أولوية الأولويات وهو مفتاح كل عمل إصلاحي من حيث المبدأ، ولكن هذا لا ينسينا أن كل ما في مجتمعاتنا بحاجة للإصلاح، من اقتصادها إلى ثقافتها إلى تعليمها إلى إدارات دولها ولابد أن نشير إلى أن أحزاب المعارضة وتياراتها لم تهتم بدورها جدياً حتى الآن سوى بالإصلاح السياسي.

وتناست أو تجاهلت غيره فلم تقم بدراسات معمقة لجوانب الحياة الأخرى في مجتمعاتنا وصولاً إلى وضع مشاريع ومقترحات لمعالجتها، عند استلامها السلطة ـ إن استلمتها ـ أو تقديمها للأنظمة السياسية القائمة منذ الآن علها تستفيد منها.

أما معظم الأنظمة العربية فتكاد تكون غائبة عن احتياجات الناس ما دامت سلطاتها مستقرة، حتى غدا الخلل أمراً عادياً ألفناه وألفنا ولم يعد يصيبنا بالدهشة، وحق علينا القول إن التخلف لا يتجزأ. أما الإصلاح فيبدو انه بعيد المنال لنقص القدرة لدينا أو لنقص الرغبة فيه.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)