عرضت قناة "الجزيرة" الفضائية في الذكرى الأربعين لـ"نكسة" حزيران مقابلات عابرة مع مواطنين خليجيين، سألَتهم آرائهم وانطباعاتهم ومشاعرهم في هذه المناسبة. فجاءت إجاباتهم مختلفة عما يمكن أن نتوقعه من إجابات أشقائهم من مواطني مصر وبلاد الشام؛ فمنهم من لم يسمع بهذا الحدث إطلاقا، ومنهم من عصر ذاكرته لينبش من أطرافها ذكرى واقعة حربية حصلت في زمن ما غير المحدد بين عبد الناصر وإسرائيل، لكن بعضهم بدا أنه ملمّ بقدر ما بهذه الواقعة بين الزعيم المصري والأعداء اليهود، والتي خسرها الزعيم العربي نتيجة خيانات في أوساط قادته، وبسبب عوامل خارجية أخرى تندرج في نفس الصفة الغدرية. إلا أن واحدا من أصحاب الرأي الأخير كان مقتنعا، استنادا لحسبة بسيطة، أنه لو يتاح للعرب جميعا منازلة إسرائيل منفردة، حتى لو كانوا مسلحين بالعصي فقط، فإنهم قادرون على إنهائها ومحوها من الوجود. وما كان غريبا لو صادف الريبورتاج شخصا آخر لا يعرف إسرائيل ولم يسمع بها.

لا أتقصد من الحديث عن هذا البرنامج العتب على وزارات التعليم أنها، ربما، لم تدرج في دروس التاريخ أو الجغرافيا أو السياسة أو الأدب أو الفن… الخ مكانة إسرائيل الكبيرة في حياتنا المعاصرة وفي وجودنا الحالي، ولا أحاول التلميح إلى أن هذه الوزارات، ربما، لم تقم بواجبها القومي بتكريس الحالة الإسرائيلية في أذهان طلابها، ليتمكنوا من ربط أو إحالة كل مساوئ مجريات أيامهم، وعلى كل الأصعدة، على إسرائيل، كما فعلت بعض "دول الطوق" (مصطلح سقط من الخدمة في الخطاب السياسي المقاوم).

ولا أعتب على هؤلاء المواطنين جهلهم بأهم همومنا نحن شعوب "دول الطوق"، ولا آخذ عليهم اختزالهم لأهم حدث في حياتنا المعاصرة، والذي كان له الدور الحاسم في كل ما جرى لنا وعندنا من بعد تاريخه، إلى مجرد واقعة حربية جرت في تاريخ غير متعين كمعركة القادسية أو حطين أو حتى داحس والغبراء، لا يرتبطون بها ولا ترتبط بهم. ولن أعتب عليهم لأنهم لا يعرفون أو لم يذكرون علاقتنا نحن السوريين بهذه الحرب؛ فإن كانت في جانب مهم منها للزعيم عبد الناصر، أو أنه كان من موقع زعامته أحد مسببيها، فإنها الحرب التي هجّرت آلاف العائلات السورية والفلسطينية، والتي خسرنا فيها أراضي ومياها مازالت تحت الاحتلال الإسرائيلي لا نعرف سبيلا لاستعادتها. بل تحولنا عن الاهتمام بتحريرها إلى الصراع فيما بيننا على آليات هذا التحرير وعلى أحقية قيادته. فأغلب مشاكلنا الداخلية أو العربية متأتية من ادعاء الزعامات والقيادات السياسية، والدينية مؤخرا، بأنها صاحبة الحق في قيادة نضال تحرير هذه الأراضي، واستنادا على هذا الادعاء تقوم كل جهة أو فئة بتكفير الآخرين والبطش بهم، هذا الإدعاء التحريري هو نفسه الذي قام الفلسطينيون، تحت رايته وفداء له، بتذبيح بعضهم، مؤخرا ولاحقا وسابقا.

لن أعتب على بعض "إخواننا" "العرب" أنهم لا يعرفون عن جولاننا "الحبيب" (نكنيه بالحبيب لينتظم سجعا مع اللواء السليب)، وهو الحاضر في كل خطاباتنا وخطبنا التاريخية والأقل تاريخية، وهو الذي نظم له شعراؤنا بضعة أشعار، وأنشد له مغنونا بضعة أغان يستفيد منها مرشحو مجلس الشعب عندنا كثيرا في حملاتهم الانتخابية، حيث يبثونها علنا ودون خوف من أحد في خيمهم الانتخابية، مستخدمين لها أضخم مكبرات الصوت (واستخدم هنا الكلام بمعناها الحرفي لا المجازي) ليصرعوا بها سكان الأحياء ومرضى المستشفيات المتكاسلين عن إقامة الذِكر لجولانهم المحتل. ومازالت، وستبقى، جميع قوانا السياسية متمسكة، كرمى لجولاننا، بالقرارات الدولية 242 و338، وغيرها ذات الصلة، غير آبهين جميعا إن تمسكت إسرائيل بهذه القرارات أم حتى لم تعترف بها، مؤمنون أن تمسكنا العتيد هذا هو سبيلنا إلى "النصر والتحرير".

لا أعتب على أولئك المواطنين العرب، بل ربما أحسدهم. وسيكون حسدي متواضعا، فلن أطمح أن أحسد من لم يسمع بإسرائيل، أو من لم يسمع عن هزيمتنا الحزيرانية، أو إن سمع فلا تشكل له إحراجا أخلاقيا (ومعرفيا أيضا) حين يسهو عن ذكرها في أيّ من أحاديثه فيتصيده الممانعون ويتهمونه بالأمركة. سأكتفي بحسد من مازال يتحدث عن "نحن العرب"، أحسده لأنه ليس محتارا مثلي إلى أي عرب يمكنه أن ينسب نفسه. فالأحداث الراهنة التي تمر بها المنطقة والشعوب العربية لم تُبق "عربا على عرب". ولا أدري إن كان مازال على تصوره بعد استقلال غزة عن بعض العرب وتشكيلها عربا جدد. آملا أن يبقى على تصوره المريح ولا يتعب نفسه مثلي بالتفكير: وماذا عن القضية الفلسطينية بعد الآن؟ ويصل إلى الجواب: لم يعد من وجود للقضية الفلسطينية. بل تشظت إلى قضايا أخرى سيكون لكل منها اسم ومسمى جديد. فليس ما حدث في غزة يشابه أي من الانشقاقات التي مرت بها المنظمات الفلسطينية عبر تاريخها، وليس ما حدث في غزة يمكن الرجوع عنه إرضاء لأي وساطة أو قبولا بأي رعاية. بل سنحتاج بعد بعض الوقت إلى وسطاء لتوحيد المسارات الفلسطينية، التي سترتبط كل منها بمسارات عربية أخرى متخاصمة، خاصة إذا تابع الحال اللبناني مسيرته الانقسامية التي ستخلق لنا مسارين جديدين على الأقل. هذا فضلا عن أن المسارات اللبنانية سيكون لها تشعباتها نتيجة تعاملها مع قضيتين: إسرائيل، ومزارع شبعا. لكن ربما هذا الوضع لن يكون في صالح إسرائيل التي ستتوه بين هذه المسارات المتوالدة وستعجز عن التعامل معها، وقد يدفعها ذلك للاستسلام.

فكيف بعد هذا يمكن أن أعتب على من لا يعرف أو يتذكر هذه المسارات وتواريخها، ومن منا حينها سيتمكن من معرفة آثارها وتداعياتها على حياته، إن كان من مواطني الخليج أو من مواطني "دول الطوق" التي قد يزيد عددها بعد ما حصل في غزة وما يمكن أن يحصل في لبنان. فما يجري الآن سيشكل تحولا في حياتنا "العربية" لا يقل عما جرى لها جراء هزيمة حزيران، وسنعرف تقسيما كيانيا جديدا سينسينا "سايكس بيكو"، خاصة إذا ما تقسَّم العراق نتيجة الحرب "العربية" "العربية" التي تطحن أبناءه وثرواته. ويحدث كل هذا في ظل ما يعتبره محللونا حكومة أولمرت الضعيفة وإدارة بوش الغبية ودبلوماسية رايس المكشوفة. فكيف لأخي، ذاك المواطن الخليجي، أن يحدد سبب هزيمتنا الجديدة، هذا إذا وجد في ما نحن فيه هزيمة. وهل له أن يفكر بأن غياب العقلانية، عن أنظمتنا السياسية ونظمنا المعرفية والتعليمية والثقافية وغيرها، قد يكون السبب في كل ذلك، وليس معرفة أي منا "العرب" وأي منا "الخونة". فقد يريحني من قلق البحث إلى أي عرب يجب ننتمي.