ثلاثة اجتماعات وبيانان الأول معلن والثاني غير معلن, هذه هي الحصيلة المعروفة لاجتماع لجنة التعاون والتنسيق لدول الجوار العراقي الذي انعقد في دمشق. والمفاجأة التي سجلها المؤتمر لم تكن الغياب السعودي بل اللقاءات الجانبية التي حصلت بين السوريين والأميركيين الذين شاركوا في الاجتماع.

ماذا دار من همس في هذه اللقاءات؟

منذ اللحظة الأولى لانعقاد المؤتمر بدا واضحا ان الاميركيين لا يريدون التزحزح عن موقفهم المعروف «نريد أفعالاً من دمشق ولا نريد أقوالاً», ومن جهتهم كان السوريون ­ ومعهم الايرانيون ­ يحاولون ايصال رسالة واضحة في الاجتماع المغلق كما في اللقاءات الجانبية التي واكبته خلاصتها ان مشكلة العراق سياسية يحاول الأميركيون حلها بالوسائل العسكرية, ولا حل من دون مساهمة دول الجوار بدءاً بسوريا وايران.

و«حوار الطرشان» بقي على حاله بعد انتهاء المناقشات, إلا أن مسؤولاً سوريا ابلغ «الكفاح العربي» أنه لمس لدى الجانب الاميركي الذي يضم مجموعة من الخبراء والأمنيين بداية تفهم لجوهر المشكلة وهي ذات طابع أمني­ سياسي في آن, والفشل الأميركي في العراق مرده في نهاية المطاف الى أن الادارة الأميركية تتعاطى مع هذه المشكلة وكأنها امنية صرف ولا تريد أن تدفع ثمن أي حل سياسي.

في هذا السياق نذكر ان السفير تشاس فريمان المساعد السابق لوزير الدفاع الاميركي ومدير مجلس سياسة الشرق الأوسط, وهي مؤسسة اميركية تعنى بتوجيه السياسة الاميركية في المنطقة وتشجيع الحوار بين وجهات النظر المختلفة, كان قد استبق الاجتماع بتصريحات امام الكونغرس قال فيها ان ادارة بوش تحاول بزيادة استخدام القوة المسلحة في العراق, ايجاد حل عسكري لمشكلة تحتاج بطبيعتها الى حل سياسي, وبذلك اقحمت الولايات المتحدة نفسها كطرف في سلسلة من الصراعات المسلحة التي تجري بين الاطراف المتنافسة في العراق, وعجزت عن ان تدفع بتلك الاطراف الى حل سياسي, كما انه, باستثناء الاكراد والحكومة العراقية المتقوقعة داخل المنطقة الخضراء, فإن اطرافا عديدة من ابناء الشعب العراقي ترفض استمرار الوجود العسكري الاميركي على التراب العراقي.

واضاف السفير تشاس فريمان: من المستحيل ان تتمكن قوة عسكرية اجنبية تحتل اراضي دولة مستقلة, من ان تتولى اقامة نظام حكم فيها يحظى بالمشروعية, وحتى عندما حاولت الولايات المتحدة ذلك عن طريق اجراء انتخابات في ظل الاحتلال, كان تصميم عملية الانتخابات في العراق سيئاً للغاية, بحيث اسفر عن تقسيم العراقيين على اسس عرقية ومذهبية, بدلا من توحيدهم ولم شملهم, ولا يوجد اي جهد عسكري يمكن ان تقوم به القوات الاميركية في العراق, يكون من شأنه تغيير الوضع المزري الذي آلت اليه الوحدة الوطنية وتعثرت معه جهود المصالحة الوطنية.

هذه الحقائق بالاضافة الى طبيعة الاحتلال الاميركي للعراق كانت موضع بحث في الجلسات الجانبية التي رافقت انعقاد الاجتماع, بالاضافة الى خصوصية دور أو أدوار دول الجوار العراقي في الاحاطة بالأزمة من مختلف جوانبها, لأنها وحدها قادرة على وضع حد للفوضى القاتلة والحروب الاهلية الصغيرة التي يعيشها العراق, ولأن التعامل الأميركي مع المشكلة يستند الى قدر كبير من التعنت والهلوسة. فالرئيس جورج بوش عندما قرر غزو العراق قرر غزو عراق من نسج خياله واحلام السياسيين الذين يحيطون به بعيداً جداً عن الواقع, والمشكلة الحقيقية انه ومن معه لم يستفيقوا بعد من الحلم الذي تحول الى كابوس مريع.

نعود الي الاجتماع. بعد ثلاث جلسات مغلقة مطولة, تجاوزت مدة الأخيرة منها ثلاث ساعات, خرج المجتمعون ببيانين: «الأول بيان ختامي, يوزع على وسائل الإعلام بعدما تتفق عليه الأطراف سياسياً وأمنياً, ويكون رافعة لآمال الشعب العراقي», بحسب ما أعلن وكيل وزير الخارجية العراقية لبيد عباوي, والثاني غير معلن, يتضمن توصيات عملية ترفع إلى اجتماع وزراء الداخلية المقرر عقده في الكويت في تشرين الأول €اكتوبر€ المقبل بعد اجتماع وزراء خارجية دول الجوار العراقي, الذي سيعقد «قريباً» في اسطنبول. تبدت أهمية اجتماع التعاون والتنسيق الأمني المنبثقة عن مؤتمر شرم الشيخ في المناخات السياسية التي أحاطت بالاجتماع, وظهر ذلك على أكثر من مستوى. فعلى مستوى المشاركة, كان لافتاً حضور الجانب الاميركي بصفة مراقب ممثلاً بوفد من الخبراء الأمنيين الذين وصلوا إلى دمشق من بغداد على متن طائرة عسكرية. ضم الوفد نائب المستشار العسكري في السفارة الأميركية في بغداد كارون ساسارا وثلاثة آخرين, وترأسه القائم بأعمال السفارة الأميركية في دمشق مايكل كوربن, في أول لقاءات اميركية­ سورية على هذه المستوى, كما حضرت وفود من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن والأمم المتحدة والجامعة العربية بصفة مراقب إلى جانب وفود من الكويت والأردن والبحرين وسوريا والعراق ومصر وإيران وتركيا, فيما تغيبت السعودية, الأمر الذي رد لأسباب عدة المعلن منها أن السعودية لا ترى أهمية في مشاركتها في اجتماعات اللجان المنبثقة عن مؤتمر الشيخ, وغير المعلن منها هو أجواء العلاقات المجمدة السورية ­ السعودية, وأيضاً السعودية ­ العراقية, على الاتهامات التي وجهها مسؤولون عراقيون للسعودية.وقد تزامن الاجتماع على صعيد التحرك الدبلوماسي الإقليمي, مع زيارة رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي إلى كل من تركيا حيث تم وضع مذكرة تفاهم مع الأتراك على ملاحقة حزب العمال الكردستاني في شمال العراق, وكذلك زيارته إلى إيران وإعلان الأخيرة دعمها للسياسة الأمنية لحكومة المالكي مع وعد بتقديم المساعدة لتحقيق الاستقرار في العراق, وهو ما ترافق مع حملة اتهامات مركزة أطلقها مسؤولون اميركيون عسكريون بأن 75€ من الهجمات على القوات الاميركية تقوم بها ميليشيات مدعومة من إيران, وأن عبوات ناسفة شديدة الانفجار تستخدم في أعمال التفجيرات صنعت في إيران ودخلت العراق. وقد عاد بوش وانتقد بشدة تصريحات المالكي بأن إيران تريد المساعدة, قائلاً بأنه سيجري حواراً مع صديقه المالكي بهذا الخصوص ويعتقد أن هذا التصريح ليس من صميم قلبه €المالكي€. في هذه الأثناء احتدم النقاش في دمشق ضمن اجتماع اللجنة الأمنية, فجرى في اليوم الأول تبادل للاتهامات. وبحسب مصادر إعلامية, وزعت ورقة عراقية بصيغة اميركية على الدول المشاركة قبل أيام, تلقي المسؤولية كاملة عن ضبط الحدود العراقية على عاتق دول الجوار, من دون الإشارة إلى دور الحكومة العراقية بتحمل مسؤوليتها عن ضبط الحدود من جانبها. وخلال الجلسات طالب الاميركي كوربن بتنفيذ «أفعال لا أقوال», وقال في بيان صادر عنه «لا بد من وقف تدفق المقاتلين الأجانب الذين يقومون بأعمال إرهابية تقتل آلاف الأبرياء العراقيين. وكذلك, ينبغي وقف تسليم الأسلحة وتدريب من يقومون بأعمال عنف في العراق». وان «الأسلحة والتدريبات المتعلقة بأعمال العنف والإرهاب, يجب إن تُجمد». أما الوفد الإيراني فقد انتقد, من جانبه, اميركا والحكومة العراقية لإتباعهما سياسة «المعايير المزدوجة» بمطالبتهما بوقف دعم الإرهاب مع استضافتهما منظمة «مجاهدين خلق». كما ان الوفد التركي تحدث بانزعاج عن وجود عناصر من «حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق. وفي المقابل, أشار الوفد العراقي إلى وجود عراقيين بعثيين مطلوبين في سوريا. وكان الرد بأن «هذا يتعــلق بالقــوانين في كل دولة, وسوريا مســتعدة لتسليم أي مطلوب عبر الانتربول ووفــق اتفاق تبادل تسليم المــطلوبين الذي وقع في الرياض في العام 1983 واتفــاق التــعاون لمكافحة الإرهاب بين العراق ودول الجوار». وقد وجدت سوريا الفرصة مناسبة لشرح الجهود التي بذلتها لضبط الحدود, وشدد وزير الداخلية السوري اللواء بسام عبد المجيد على أن سوريا «بذلت كل إمكاناتها واتخذت الإجراءات اللازمة على حدودها للإسهام في تحقيق الأمن». وقال إن كل الإجراءات التي اتخذتها دمشق «لا تفي بالمطلوب إذا اتخذت من جانب واحد من الحدود لأن حماية الحدود مسؤولية مشتركة بين الدول المجاورة», قائلاً «إننا أبدينا استعدادنا الدائم والصادق للتعاون الثنائي خصوصاً بعد توقيع مذكرة التفاهم». وزاد: «مستعدون لتنفيذ البروتوكول الأمني وعقد اجتماعات بين اللجان المختصة», منتقداً بريطانيا وأميركا على عدم وفائهما الوعد بتقديم أجهزة مراقبة ليلية لضبط الحدود مع العراق. وفي الجلسة الختامية, نُقل عن اللواء محمد منصورة الذي كان حاضراً في الجلسات, أنه شرح بالتفصيل الإجراءات التي اتخذت لضبط الحدود ومنع التسلل, مثل نشر سبعة آلاف من حرس الحدود, ورفع ساتر ترابي, وإقامة 570 نقطة مراقبة, واعتقال نحو 1250 مقاتلا. كاشفاً عن تعرض القوات السورية إلى اعتداءات من الطرف الآخر ما أدى إلى استشهاد ستة من القوات السورية وجرح 17 شخصا. واعتبر منصورة إن الإرهاب «وصل نقطة تجاوزت كل الخطوط الحمر», مؤكداً استعداد سوريا لتقديم كل التعاون لتأمين الاستقرار في العراق.

الجانب المصري طالب العراقيين بضرورة الإسراع في تبادل المعلومات وفقا لبروتوكول التعاون الأمني الموقع من قبل وزراء داخلية دول جوار العراق, بالإضافة إلى تزويد الأجهزة المصرية بأسماء المعتقلين المصريين في العراق. وقال مساعد وزير الخارجية المصري هاني خلاف على هامش الاجتماعات, إن الجانب العراقي أكد وجود محتجزين لديه من جميع الجنسيات وعددهم 2670 معتقلا بينهم 800 إيراني. كما أبلغ السلطات المصرية بأعداد المصريين المحتجزين لكنه امتنع عن كشف الرقم.

وفي الختام, اتفق الجميع على خطوط عريضة أعلنت في البيان الختامي, الذي تضمن نقاط عدة أهمها: احترام وحدة واستقرار العراق وعدم التدخل في شؤونه الداخلية, إضافة إلى أهمية تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة في العراق, وإدانة اعمال العنف والإرهاب كافة التي تستهدف المدنيين العراقيين الأبرياء والبنى التحتية ومؤسسات الدول ودور العبادة. وأبدى المشاركون استعدادهم للتعاون مع الحكومة العراقية في جهودها لتحقيق الأمن والاستقرار في العراق, وكذلك في بناء قوات الجيش والأمن العراقيين على أسس مهنية ووطنية في ضوء المسؤولية المشتركة التي استشعرتها الوفود المشاركة حول دفع التعاون في المجال الأمني. وأكد البيان أن مسؤولية ضبط الحدود تقع على عاتق العراق وكل من الدول المجاورة له, وأنه سيتم العمل على تفعيل سبل التعاون في مكافحة الإرهاب وضبط الحدود والحيلولة دون انتقال هذه الأعمال عبره حدوده, وتعزيز الآليات القائمة, وأهمية إقامة آليات جديدة لدعم التنسيق بين العراق ودول الجوار على المستويين الثنائي والجماعي, بما لا يتعارض مع البروتوكول الأمني الذي وقعه وزراء داخلية الجوار في اجتماعهم الأخير في السعودية. وضرورة الاستمرار في عقد اجتماعات هذه اللجنة لمتابعة تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه, وبحث ما يستجد في هذا الشأن.

ومع أن الجلسات المغلقة طالت كثيراً, وعلى الرغم من أن أحداً لم يؤكد حصول خلافات عميقة, إلا أن ما رشح عن الجلسات يشير إلى صعوبة التوصل إلى نتائج ملموسة على الأرض, حيث أن اميركا تربط أي حل لأي قضية في المنطقة بتحقيق الأمن في العراق أولاً, فيما ترى بعض دول الجوار وبالأخص سوريا أن الحل ليس أمنياً بل سياسي, وهو ما لا ترغب فيه اميركا لأن أي حل سياسي مرتبط بشكل مباشر بإيجاد حل للملف النووي الإيراني وملف سلام شامل مع إسرائيل, وهي لا ترغب بتقديم أي تنازلات في هذين الملفين, بل على العكس تماماً اتبعت سياسة العزل والضغط وابتكار ملفات شائكة جديدة في لبنان وفلسطين, وشبكها مع الملف العراقي للاستخدام في إحكام الحصار على كل من سوريا وإيران لتقديم المساعدة في العراق لقاء رفع الضغوط, إلا أن هذه الطريقة وسعت دائرة اللعب الإقليمي لتدخل أطراف أخرى كثيرة وتصبح معنية مباشرة بأمن العراق, كما فسحت في المجال لكل من سوريا وإيران للدخول في هذه اللعبة بفعالية, بحيث بات الترابط بين تلك الملفات يجير لمصلحتهما وحتى نقاط الخلاف السياسي السوري ­الإيراني حول مستقبل العراق, المتعلقة بالتقسيم واجتثاث البعث وأجندة حكومة المالكي, وكذلك اختلاف الأولويات البلدين في ما يخص لبنان, نجد أنه تم التغلب عليها ولو مرحلياً لمصلحة الاستمرار بآلية ضبط الملفات وإدارة اللعب مع الطرف الاميركي الغارق في وحول العراق. وحسب مصادر خاصة قالت لـ«الكفاح العربي», بأن الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني إلى سوريا جرى فيه إعادة التفاهم حول هذه النقاط, حيث جرى بحث الملفين اللبناني والعراقي.

وبينما تسعى الإدارة الاميركية إلى رمي الكرة في الملعبين السوري تارة والإيراني تارة من خلال النافذة الأمنية, نجد أن سوريا وإيران يعيدانها إلى الملعب الاميركي في مراهنة واضحة على الزمن. وإذا كانت سوريا قد أبدت مرونة عالية في التجاوب مع مبادرة دولية وحتى اميركية دبلوماسية للحوار, فلا يعني ذلك التراجع عن مطالبها بإيجاد حل شامل لكل القضايا التي تعمل اميركا على تشبيكها وتعقيدها وتصعيدها, بهدف زيادة حدة الضغط. كان هذا واضحاً في التجاوب السوري مع المبادرة الفرنسية لحل الملف اللبناني, وكان يمكن لها التقدم بشكل أكبر لولا الممانعة الاميركية. كما أبدت سوريا تعاونها في اجتماع اللجنة الأمنية وأسندت مهمة إدارة الاجتماعات للجانب العراقي لتأكيد جديتها في التعاون, وهو ما لم يظهر لدى الطرف الاميركي الذي استبق الاجتماعات بحملة اتهامات لإيران. وكل ذلك بهدف الاستمرار في عملية تجاذب واضحة, يراهن فيها كل طرف على تعب الآخر والاضطرار لتقديم التنازل. والمشكلة أن الوضع على الأرض يزداد صعوبة وتعقيداً ويترك الاحتمالات مفتوحة على السيناريوات الأسوأ, على الرغم من إعلان الجميع عن رغبتهم بتحقيق الأمن والاستقرار.

مصادر
الكفاح العربي(لبنان)