في وسع أي إنسان في الكرة الأرضية أن يتساءل: بأي حق يوجه رئيس دولة دعوة الى عقد مؤتمر دولي حول مسألة هي - منذ أزيد من نصف قرن - أمّ المسائل في الدنيا جميعاً: عليها يتوقف السلم والاستقرار في العالم أو الاضطراب والحروب والمواجهات، وهي - لذلك السبب - مما يهم دول الكون أجمع (فضلاً عن المعنيين بها مباشرة)، ويمتنع على واحدة منها- مهما عَظُمت وعلا شأنها في الأرض - أن تنفرد بالحق في توجيه الدعوة الى العالم وكأنها تخاطب مواطنيها في شأن داخلي في صميم السيادة الوطنية؟

في وسعه أن يطرح هذا السؤال لأن الدعوة لم تَرِدْ في صورة اقتراح يُبْحَث أو نداء يُنظر في أمره، وإنما وردت في شكل أمر قُضي، وحكم أبرم وكأنما صاحبها مشمول بصلاحية تقرير مصائر العالم والنطق بالنيابة عن شعوبه وأممه ودوله ومؤسساته، يقول فَيُجاب، ويأمُر فيُطاع. لا، إن رئيس الدولة تلك ما اكتفى بتوجيه الدعوة الى عقد المؤتمر، بل اختار التوقيت الذي أراده، وحدد من يشارك في المؤتمر، ووضع جدول أعماله منفرداً، وعيّن وزيرة خارجيته لترأس اجتماعات المؤتمر، لعله استبقى شيئاً واحداً طي الكتمان هو صيغة التسوية التي يريدها (الضرورات الشكلية أو الفنية وحدها اقتضت ذلك الكتمان”.

ثم إن في وسعه أن يستغرب أكثر - إن كان ممن يعرفون قليلاً في فقه السياسة الدولية - كيف تجترئ دولة على سلطات لا يخولها القانون الدولي لها فتصادرها من الجهة الشرعية (الأمم المتحدة)، بل تفرض على هذه الأخيرة السكوت عن هذا الانتهاك الصارخ لسلطانها ولسلطان القانون الدولي، وتدفع “أمينها العام” الى الاهتمام الشديد بمصادرة “حماس” لسلطة محمود عباس بدلاً من الاهتمام بمن يصادر سلطته هو، أو الى الانشغال بأمر الحاجة الى مراقبة الحدود بين سوريا ولبنان بدلاً من مراقبة الحدود بين الولايات المتحدة والأمم المتحدة؟

رب قائل إن الدعوة إياها لم تكن سابقة في السياسات الدولية المعاصرة. حصل مثلها في دايتون لبحث الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك في منتصف العقد الماضي، من دون أن يكون للأمم المتحدة علاقة بالموضوع. وحصل قبلها شبيه ذلك في مؤتمر مدريد ل “السلام” في بداية العقد الماضي حيث كانت الأمم المتحدة “بجلالة قدرها” مجرد عضو مراقب. وهذا صحيح الى حد، فلقد أقدمت إدارة جورج بوش الأب ثم إدارة بيل كلينتون على توجيه الدعوتين و”رعاية” المؤتمرين بعيداً عن أي دور أو وجود - أو حتى اعتبار- للأمم المتحدة، وللقانون الدولي. غير أن الفارق بين “نازلة” هذه الدعوة وبين سابقتيها أن مؤتمر دايتون لم يكن مؤتمراً دولياً أو لم تدع اليه واشنطن باسم النظام الدولي ونيابة عن مؤسساته الشرعية (ولذلك كانت مبادرة أمريكية هدفها اختطاف الأزمة البلقانية من السياسة الأوروبية). أما مؤتمر مدريد، فقد روعي في الدعوة اليه بعض الشكليات، ومنها أن الدعوة وجهت باسم “راعيين” (“الراعي” الأمريكي وشاهد الزور الروسي)، وسمي المؤتمر إقليمياً ولم يسم دولياً، وقدمت في رسائل الدعوة ضمانات لأطراف الصراع، وقيل صراحة إن المفاوضات ستجري على قاعدة قرارات الأمم المتحدة وصيغة “الأرض مقابل السلام”. ولا شيء من ذلك كله في دعوة اليوم التي لم يعلم بأمرها حتى شركاء أمريكا في “اللجنة الرباعية” الدولية قبل أن يعلن جورج بوش أنه “قرر” الدعوة الى هذا المؤتمر. أليس لهذا الأمر، إذاً، أن يبرر الاستغراب لخروجه على الأصول القانونية والسياسية والأعراف الدبلوماسية؟

هذا لسان حال الجميع في “المجتمع الدولي” (ما خلا “اسرائيل” بمن فيهم حلفاء واشنطن في أوروبا. غير أن هؤلاء جميعاً لا يملكون أن يعترضوا على الدعوة ولا حتى على صيغتها، ولعل ذلك مما كان في أساس إلقائها على هذا النحو الذي لا يقيم اعتباراً لأحد، ولا يحفظ للقانون والأصول والأعراف حرمة، لكن هذا كله يقع في باب الاستغراب الأصغر. وهو كذلك (أصغر) لمن يعرف الى أي حد انفلتت سياسات الإدارة الأمريكية من أي عقال منذ حصل ذلك الفراغ الرهيب في الساحة الدولية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، إنما الاستغراب الأكبر هو الذي يدعو اليه الموقف الرسمي العربي من الدعوة على نحو ما عبر عنه في اجتماعات مجلس وزراء الخارجية في القاهرة، وفي تصريحات عربية أخرى رسمية لا تخلو من خفة.

لا أوهام لدينا في “شجاعة” الموقف الرسمي العربي و”مبدئيته” أو في مدى قدرته على إبداء أي اعتراض حتى ولو رمزي - على الدعوة وطريقة الدعوة، والباعث على الاستغراب الأكبر أمور أخرى عديدة منها أربعة على الأقل: أولها أن المؤتمر يختطف ما سمي “المشروع العربي” ويحوله الى مجرد وثيقة للاستئناس البروتوكولي، وثانيها أن الدعوة الى المؤتمر لم تجهر بالهدف منه (مثلاً، لم تعلن أن الهدف منه تطبيق القرارات الدولية وانسحاب “إسرائيل” من الأراضي المحتلة عام ،67 وعودة اللاجئين وقيام الدولة الفلسطينية). وثالثها أنه لا يجوز الترحيب بدعوة تعترض عليها سوريا، فيكون من نتيجة ذلك عزل سوريا. ورابعها أنه كان في وسع النظام العربي أن يستغل المناسبة فيدعو الى عقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة لتطبيق قراراتها ذات الصلة بقضايا الصراع العربي - “الإسرائيلي”.

هذا مما يستغرب له حقاً من دون أن نتحدث عما وراء الدعوة الى المؤتمر من رشوة سياسية للعرب مقابل أدوار ستطلب منهم قريباً في المنطقة.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)