طيلة أمد الصراع على فلسطين، ومنذ أن بدأ، واجه ويواجه الفلسطينيون حرباً دائمة أو حروباً في حرب متعددة الوجوه والسبل والأدوات تستهدف أمرين: هما تهويد فلسطين وطمس وجودهم الوطني. وطيلة عقود هذه الحرب التي تساوي عقوداً امتد عليها هذا الصراع المديد، تفنن عدوهم المغتصب لوطنهم فجرّب شتى صنوف تلكم الحروب التي افترض أنها تخدم تحقيقه لهدفيه هذين... التقتيل، التدمير، التهجير، القهر والتغييب، الطمس والتهويد، صناعة الأمر الواقع وابتداع الوقائع، تزييف التاريخ وليّ عنق الحقائق، وكل ما من شأنه استباحة حقوقهم واستهداف وجودهم الوطني، وعنى في المحصلة محاولة إبادتهم سياسياً، إن لم يتسنى له ذلك أو استحال جسدياً، وصولاً إلى الاستماتة من أجل شطب هويتهم الوطنية برمتها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً... لكن الإسرائيليون نجحوا وفشلوا... نجحوا في التقتيل والتدمير والتهجير وتهويد غالبية فلسطين ومواصلة استباحة الحقوق، وفشلوا في الطمس والتغييب وإبادة الوجود الوطني الفلسطيني وشطب هوية شعب صمد وواجه الغزاة وضحى من أجل حقوقه ولا زال... أقله صمدت الديموغرافيا الفلسطينية. وهنا أزمة الغزاة المحتلين الأبدية ومدعاة قلقهم الوجودي أو عقدتهم الدائمة... إذن لن يهدأ الإسرائيليون إلا إذا صفّيت القضية الفلسطينية.

هذه الأيام يشعر الإسرائيليون، أكثر من أي وقت سبق أن الظروف أضحت مناسبة أكثر للاقتراب، بشكل أو بآخر، من تحقيق هدفيهما المشار إليهما، أو بلغة أخرى، تصفية هذه القضية.

الظرف الدولي الراهن، أو هذه الحقبة الأمريكية الكونية، وتحت عباءة حروبها العالمية على ما يدعى الإرهاب، والوضع العربي المنحدر الموسوم بالعجز والشلل الناجم في أغلبه عن غياب الرؤيا الصحيحة أو تغييبها لطبيعة الصراع وبالتالي انعدام الإرادة السياسية، بالإضافة إلى الأوضاع الفلسطينية البائسة الناجمة عن حصاد المسار الأوسلوي المر، وتداعيات أحداث غزة المؤسفة. كلها أمور، ولا أنسب منها لتعزيز مثل هذا الشعور الإسرائيلي، ودفع أصحابه لاقتناص ما قد تتيحه هذه الظروف المترتبة المناسبة من فرص تصفوية طال انتظارها.

هذه الأيام هذه الحرب التي واجهها ويواجهها الفلسطينيون تشهد بعض تجلياتها متعددة الأوجه وتيرة ارتفاع لم يسبق لها مثيل، مستفيدة في تصاعدها من ذات الظروف، لاسيما لجهة جانب من هذه الحرب بالذات، أجاده ويجيده الإسرائيليون عادة، وهو ضخ الأوهام، تلك التي لا يحدث وأن تنجلي سحاباتها الخادعة، أو تختفي بروقها الخلابة، إلا وتخلفها الأخرى.

هذه الأوهام اليوم تحملها إلى الساحة الفلسطينية والعربية ما يمكن تسميته بحرب الخطط الإسرائيلية التي تلوّح بمقترحات حلول أو الكلام عن نوايا محاولتها، أو هذه التي تترى بنسخ مختلفة وإن لا تختلف مسرّبة بعضها في الإعلام الإسرائيلي، أو الصحافة الغربية، والتي إن لم تنف فلا يتم في الغالب ما يوحي بتأكيدها رسمياً. ويبدو في المحصلة أن كل ما يهم مروجيها هو استثمارها تصفوياً لجهة دفع الواهمين أو استدراجهم لمزيد من التنازل والاستجابة لأضاليلها.

قبل أسابيع قليلة تم تسريب ما دعي بخطة أولمرت، التي جاءت نسخة أمينة وطبق الأصل لخطة رامون، وروّجت، كما يبدو، على شرف مقترح بوش الداعي إلى لقاء دولي مقنن ومنتقى للبحث عن حلول تفضي وفق ما زعم إلى تحقيق شعار بوش المحبب "حل لدولتين". ووازى هذا التسريب جولة رايس - غيتس في المنطقة، و رافق قبلها قدوم توني بلير ممثل الرباعية إلى فلسطين المحتلة. كان التناغم بين هذه الخطط وتلك المهمات واضحاً، وكنا قد تناولنا المسألة في مقال سابق، أما اليوم فنحن أمام خطة جديدة على الأقل لجهة لوكها إعلامياً، هي خطة الداهية شمعون بيريز، الذي أصبح منذ فترة رئيساً لإسرائيل، والتي هي أيضاً نسخة طبق الأصل تم إحيائها ونفض الغبار عنها عن ما دعي ذات يوم بتفاهم بيريز – قريع...

هذه الخطة البيريزية، لا تضم ما تختلف فيه إجمالاً عن خطة أولمرت، بل تتوافق معها. وأكثر من ذلك، تقول المصادر الإسرائيلية أن هذا التوافق جرى بين الاثنين سلفاً حولها، وتنسجم أيضاً مع الرؤية الضبابية الغامضة عن عمد للرئيس بوش، أو ما يعرف ب"حل الدولتين" المشار إليها آنفاً، وتخدم توجهاتها أو تصب في مجراها جهود أو مهمة بلير غير الحميدة.

وتشكل مع سواها ما يغري بجعلها مادة للقاء بوش الموصوف بالدولي، أو ما سيعقده هذا الحضور المنتقى والمقنن برئاسة كونداليسا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية إياه، الذي أشرنا إليه... ما الذي تطرحه الخطة؟

إنه ذات المطلب الإسرائيلي الدائم، دويلة في "حدود مؤقتة"، انسحاب من الضفة يشمل ما تدعي الخطة أنه "100% منها ناقص 5% " . وهذا الناقص هو الكتل الاستعمارية، وبديلاً عنها تطرح الخطة "تعويضاً إقليمياً مناسباً" أو تبادل "كتل استيطانية ببلدات عربية"... ماذا يعني هذا؟

إن هذه المائة في المائة أكذوبة مضللة، إذ أن انتفاء الحدود غير المؤقتة، واستثناء القدس "الكبرى" من مساحة الضفة، والصمت حول الجدار التهويدي الذي لم تتطرق الخطة إليه، إلى جانب بقاء الكتل الاستعمارية الكبرى وما يتبعها من طرق التفافية، والسيطرة على مصادر المياه، وبقاء الأحزمة الأمنية بمحاذاة نهر الأردن ...إلخ لن يبقي من هذه المساحة ما قد يزيد عن النصف. أما مسألة تبادل المستعمرات ببلدات عربية فهذا لا يعني سوى تطبيق مبدأ الترانسفير الصهيوني المعروف، أو التخلص من الكثافة السكانية الفلسطينية في المحتل من فلسطين عام 1948. وتحديداً في منطقة المثلث.

بشأن القدس، تلحظ الخطة السماح برفع علم عربي أو فلسطيني في الحرم القدسي... والقول بعلم عربي إشارة للعلم الأردني وخيار الفدرالية التي تقول المصادر الإسرائيلية أنه يلاقي قبولاً لدى أطراف من السلطة الفلسطينية... وتقول الخطة في هذا الشأن بإدارة مشتركة للديانات التوحيدية الثلاث فيما تسميه ب"الحوض المقدس" في القدس القديمة، حيث كل ديانة مسؤولة عن مقدساتها!

هذا يعني ببساطة تهويد القدس نهائياً، والسماح بعلم عربي أو فلسطيني في الحرم الشريف، إلى أن يأتي الظرف المناسب لبناء الهيكل! ولا يحول دون هذا التهويد لا رفع العلم، ولا نقل أحياء من ضواحي المدينة التي تتشكل من قاطنيها الفلسطينيين إلى مسؤولية الدولة الفلسطينية العتيدة... نقلها على الأغلب سكاناً لا أرضاً للتخلص من الديموغرافيا الفلسطينية، الأمر الذي، على أية حال، يذكرنا بفكرة أبو ديس كقدس فلسطينية!

الخطة، تطالب بتطبيقها تدريجياً مع الوفاء بالالتزامات خصوصاً الأمنية، وهذا يحمل في طياته السماح للاحتلال بالتوقف من جانبه عن هذا التطبيق متى شاء، وتحت أي ذريعة أمنية. وهي تنصّ على تعاون اقتصادي بمساعدات دولية. وهذا يعني بالنظر إلى اختلال الميزان دراماتيكياً في مستوى الاقتصادين لدى كل من الطرفين تبعية اقتصادية فلسطينية تامة. كما أن هذا يؤشر على ما تهدف إليه الحلول التي تبشر بها مهمة بلير السلمية الاقتصادية. وحيث تقول الخطة أنها لا تشمل قطاع غزة حيث موضوعه "سيبقى مفتوحاً"، وتدعوا صراحة إلى "سحب البساط من تحت أقدام حماس"، فهي وفية لما تردده وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني، من أن "الوحدة الفلسطينية تعني جموداً وتدهوراً"!!!

لكن أخطر ما في خطة بيرس هذه هو أنها تشترط قبل البدء فيها، أو يكون على رأس ذلك البدء، أن تتم تسوية قضية حق العودة للاجئين الفلسطينيين بمعنى تصفية هذا الحق. باعتباره جوهر القضية الفلسطينية. إذ تقترح الخطة ما تسميه "حلول عملية" لهذه المسألة "خارج إسرائيل"، أو كما تقول صحيفة "هآرتس":

"لاتقدم خطة بيرس صيغة لحل مسألة اللاجئين الفلسطينيين وتكتفي بالتوصية لإيجاد صياغات غامضة يرتاح لها الطرفان"!

والأهم، أن الإسرائيليين، كما تقول الصحيفة، يأملون في أن تصبح هذه الخطة برنامجاً للحكومة الفلسطينية بعد الانتخابات القادمة المنشودة التي جرى الحديث عنها مؤخراً!

ويقولون، أيضاً، أو تقول الصحيفة عنهم، أن هذه الخطة قد بحثت مع أطراف من "السلطة الفلسطينية" ووافقت عليها أو حصلت على مباركتها... وأيضاً، قالت هذه الصحيفة نقلاً عن ديوان رئاسة الوزراء الإسرائيلي: "لا علم لنا بأية خطة"!!!

إذن هم يُروّجون الخطط وينفونها أو لا يتبنوها، وكل ذلك يأتي في ذات السياقات الإيهامية التصفوية، أو بهدف التعمية أو التهدئة المنشودة راهناً لصالح إنقاذ المشروع الأمريكي في العراق و المنطقة... بحيث بدا في الأيام الأخيرة أن "الدولة" الفلسطينية قد غدت مطلباً إسرائيلياً، أمريكياً، أكثر منه فلسطينياً!

ألم يصور الإسرائيليون لقاء أولمرت – أبو مازن في أريحا قبل أيام بالحدث التاريخي، أو كأنما هو لقاء بين رئيسين ليس أحدهما محتل والآخر تحت الاحتلال... وأنه لم يذهب إلى هذه المدينة المحرّمة عليه توراتياً، إلا بحثاً عن ما قد يسهل عليه تنفيذ أمنيته النبيلة المتمثلة في إقامة "الدولة" الفلسطينية العتيدة التي لا يعيقها، كما يصورون، إلا الفلسطينيون؟!!