كم كان صادماً ومؤلماً أن يغالب وزير الدفاع «روبرت غيتس» دموعه قبل بضعة أيام، عندما تحدث عن الميجور «دوغلاس زمبيك»، الجندي البحري، والأب لطفلة لا يزيد عمرها على العام، الذي قتل في شهر مايو الماضي، بعد أن طلب تمديد فترة خدمته في العراق. وبدا «غيتس» وهو على كل ذلك القدر من الانفعال الصادم المؤثر، أثناء مخاطبته لحفل العشاء السنوي لجمعية جنود سلاح البحرية، وكأنه سبق إدارة بوش كلها إلى ما عجزت عن التعبير عنه طوال هذه السنين، بفضل ملامسته لذلك الجرح الغائر في نفوس الأميركيين، جراء الحرب التي نخوضها في العراق، وما شهدته من ضحايا وقتلى بين جنودنا وفلذات أكبادنا هناك. وكم شق على «غيتس» حبس دموعه ومغالبة انفعالاته وهو يتحدث عن الجندي القتيل. ومما لا شك فيه أن طاقم إدارة بوش قد نجح في ملامسة موجة الغضب والخوف ومشاعر الكراهية التي غمرت الأميركيين عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بقدر ما نجحوا في إلهاب مشاعر الرغبة في الثأر من الجناة، ما أفلح في إطفاء ذلك الشعور القاتل بالرعب وانعدام الأمن الذي سرى بين المواطنين بعد الهجمات.

غير أن الذي شعرنا به أثناء حديث «روبرت غيتس» المذكور، هو شيء جديد ومختلف جداً عن كل الذي سمعناه من أفراد آخرين منتمين إلى طاقم الإدارة هذه. ففي نبرته وصوته شيء من الحزن والشعور بالأسى العميق على مصرع الجندي المذكور وغيره الكثير من رفاقه المقاتلين في العراق. غير أن في الصوت والنبرة ذاتها ثمة شعورا بخيبة الأمل وبالاعتراف غير الخفي بالشعور بالذنب على ما حدث، وهو ما يلمس ذلك الجرح الغائر في نفوس الأميركيين، على إثر أربع سنوات من الموت والفشل في العراق. والذي شعرنا به هنا عند سماعنا لـ «روبرت غيتس»، لم يحدث لنا مطلقاً أن لمسنا أي شيء منه، طوال الأحاديث والخطب والتصريحات التي ألقى بها سلفه السابق في المنصب، «دونالد رامسفيلد»، مهندس تلك الحرب الكارثية ومن أبرز دعاة شنها. وعلى أرجح الظن أننا لن نلمس أياً من هذه المشاعر، ونحن نستمع إلى وزيرة الخارجية الحالية، «كوندوليزا رايس»، وهي تتحدث عادة بطريقتها الجافة الصارمة الخالية من المشاعر.

وعلى رغم ما يُقال عن لقاءات خاصة تجرى بين الرئيس بوش وأسر الضحايا، وكذلك مع الجرحى والمصابين من الجنود، وما يبدو عليه من تأثر وانفعال أثناء تلك اللقاءات، فإن المؤكد أن أياً من تلك المشاعر المعبرة عن حالات الضعف الإنساني، لن تفل عزم الرئيس بوش، أو تثنيه عن أسلوبه التبريري الذي لا يكف عن الدفاع المستميت عن النفس والخطأ. وعليه فإنه يصعب جداً أن نشعر بأي تعاطف صادق وحقيقي مع رجل لم يكلف نفسه مطلقاً عناء السؤال المضني عن القيم الأميركية في الحرب الدائرة حالياً في العراق، أو أن نجده عند من لم يأبه كثيراً للمأساة الإنسانية الكبيرة التي خلفها إعصار «كاترينا»، أو عند من أبدى استخفافاً لا يليق بقائد أمة كبيرة مثله، بنداء الكثيرين بإصلاح نظام الرعاية الصحية لمواطنيه، ومواجهة ذلك النداء بتعليق بارد وخال تماماً من العاطفة الإنسانية بقوله «ما أعنيه أن الرعاية الصحية متوافرة لجميع المواطنين، وإنه ما على أحدهم سوى الذهاب إلى أقرب مركز طوارئ صحي»!

وإذا ما عدنا تارة أخرى للتعليق على عواطف وزيرة الخارجية «كوندوليزا رايس»، فقد قرأت عن سيرتها الذاتية الكثير، ووقفت على خلوها من مشاعر العطف على من حولها منذ أن كانت دون سن العشرين. ومن بين أكثر ما استوقفني في تلك السيرة، أن أستاذها الموسيقي أرغمها على التخلي عن حلمها بأن تصبح عازفة للبيانو بين أعضاء الفرقة الموسيقية، اعتماداً على قناعته الخاصة، بعجزها عن جعل أفكار الآخرين ومشاعرهم، حالات انفعال إنساني خاصة بها. وعلى كل فها نحن قد رأينا ما الذي ينتج عنه هذا التوافق الفريد بين صرامة الروح هذه وجفافها، وهذا الارتباط الوثيق المحكم بالأيديولوجية. لكن وكما أظهر لنا «غيتس» في حديثه الأخير، أننا قد بدأنا نرى الشقوق والتصدعات في جسد القيادة الأميركية.

وكنت قد انتظرت بفارغ الصبر، كي أسمع التعليقات التي تسخر من «غيتس» أو تصفه بالضعف أو الخور أو حتى البله، لكونه كاد يبكي بالفعل أثناء حديثه المذكور، إلا أن شيئاً من ذلك لم يمس سيرته قط. بل على عكس من ذلك تماماً، فقد ورد في الحديث عنه عبر موقع military.com وهو موقع تنشط فيه منظمة خاصة بالجنود الحاليين وقدامى المحاربين على حد سواء، أنه «رجل شريف يتسم سلوكه بالاستقامة». وقد صدر عنه ذلك الوصف من قبل أحد ضباط البحرية، اعترف بأنه خر باكياً ولم يستطع أن يتمالك نفسه وهو يستمع إلى «غيتس» وهو يتحدث عن الجندي القتيل «زمبيك» قبل بضعة أيام. وإلى ذلك مضى كاتب آخر في الموقع نفسه، إلى وصف وزير الدفاع الحالي، بأنه قائد عسكري نزيه ومخلص في خدمة بلاده وبذل كل ما يستطيع من أجلها، من دون أن يبدي انفعالاته وانكساراته كإنسان. والسؤال هو كم كان ينطبق هذا الوصف على كبار قادة الحرب ودعاتها والمدافعين عنها حتى هذه اللحظة، بدءاً من بوش ورامسفيلد، وانتهاءً بكوندوليزا رايس؟

مصادر
الوطن (قطر)