دمشق: حسن سلمان

> ربما يتساءل البعض: ما الهدف من إعادة طباعة كتاب "النقد الذاتي بعد الهزيمة" رغم مرور أربعين عاما على هزيمة حزيران؟

 ما زلنا نعاني نتائج الهزيمة، ولم نر حتى الآن أي معالجة حقيقية وجدّية للأسباب العميقة لها. ما أراه هو ضرورة إصلاح البنى الاجتماعية والتعليمية والتربوية وليس الإصلاح العسكري هو المطلوب. فمن خلال خبرتي الطويلة في التدريس، وجدت أن عددا كبيرا من الشباب لديهم معرفة قليلة جدا عن تاريخ سورية من زمن الاستقلال إلى الآن. والحقيقة أن الأجيال التي جاءت بعد عام 1967 لا تملك أي معلومات حول الشروط والظروف وتسلسل الأحداث التي أدت إلى مثل هذه الهزيمة، باستثناء قلة من الباحثين أو المفكرين الذين يتابعون هذا الموضوع. وإعادة نشر الكتاب ربما هي مجرد خطوة صغيرة لسد هذه الثغرة. أضف إلى ذلك أن الكتاب يستخدم تعبير النقد الذاتي، وهو تعبير نادر في الثقافة العربية. كما أنه أول عمل استخدم مصطلح "الهزيمة" بدل "النكسة"، وإن كنت أرى أن مصطلح الهزيمة غير كافٍ للتعبير عما حدث خلال عام 1967، لأن ما حدث هو أشبه بانهيار فاق كل التوقعات، حتى أن بعض المثقفين العرب، وأنا منهم، أصيبوا بمس من الجنون من هول الكارثة، وبدأوا يبحثون عن كيفية ترميم ما حدث.

> هل النقد الذاتي يشكل مخرجاً في الوقت الراهن؟

 نحن بحاجة دائما للنقد الذاتي، خاصة في غياب الحريات العامة. لكن ممارسة النقد الذاتي أو غير الذاتي في ظل هذا الواقع مسألة صعبة جدا. كما أن إعادة التقييم وتصحيح الأخطاء على ضوء النقد ليست عادة مترسخة أو قوية لدينا، لكنها توجّه ضعيف وهزيل يمارسه قلة من المثقفين. والاتجاه الطاغي الآن هو أننا دائما ضحايا ومغلوب على أمرنا وقوى أكبر منا دائما تتحكم بنا، وذلك لإسقاط مسؤولية الفشل عنا نحن العرب.

> تدعو إلى ايجاد مراكز للبحث العلمي في العالم العربي على غرار مؤسسة "وايزمان" الإسرائيلية. في المقابل نجد مراكز أبحاث عربية كـ"مركز دراسات الوحدة العربية" تعاني الإفلاس، في حين يتسابق رجال الأعمال العرب لتمويل برامج منوعة مثل "ستار أكاديمي"، ما رأيك بذلك؟

 هذا صحيح، هناك مراكز دراسات عربية كـ"الوحدة العربية" و"مؤسسة الدراسات الفلسطينية" التي تحوي كتاباً كباراً مثل وليد الخالدي تعاني من ضائقة مالية كبيرة. والسبب أن هذه المؤسسات ليس لها علاقة بالسلطة الحاكمة، لذلك فهي لن تلقى دعم الحكومات العربية. في المقابل، نجد هناك نزوعا لمراكز دراسات استراتيجية، لكن هذه المراكز تتحول في العادة إلى مؤسسات رسمية غير منتجة. في حين يخلو العالم العربي والإسلامي من مؤسسات للبحث العلمي، خاصة في مجال العلوم الطبيعية.

> طرحت مفهوم "الاشتراكية العلمية" كحل وحيد للخروج من الأزمة. هل ما زلت تؤمن بالاشتراكية العلمية بعد فشل هذه التجربة في عدد من البلدان الاشتراكية، وعدم تطبيقها عربيا إلا بشكل نظري؟

 القضية ليست قضية إيمان، بل هي قناعات وسياسات يعاد النظر بها وتُعدّل وفقا للشروط والظروف. جزء من نقدي هو نوع من تحديد للفجوة الهائلة بين ادعاء الاشتراكية وتطبيقها. نحن ليس لدينا اشتراكية في العالم العربي، في حين أن التجربة الاشتراكية حققت أهدافها في البلدان الاشتراكية بمعنى أنها نقلت دول أوروبا الشرقية من دول "عالم ثالثية" إلى مستوى قريب من الدول المتقدمة علميا وثقافيا وإنتاجيا بالدرجة الأولى.

> في رأيك، ما هو الحل الآن بالنسبة للعالم العربي؟

 ليس هناك حل واحد، بل مجموعة حلول. هناك حل لبناني وحل سوري ومصري، لأن كل دولة لها مكوناتها المختلفة عن الأخرى وإن تشابهت في بعض الأمور. لا نستطيع القول الآن بحتمية الحل الاشتراكي الذي طرحه عبد الناصر وجماعة حزب البعث. وهم كانوا يقولون: إن التغلب على التخلف لن يكون إلا عبر حل اشتراكي في دول العالم الثالث، لكن هذا كان مجرد شعارات فقط.

> تقول ديمة ونوس في مقدمة الطبعة الثاني لكتاب "نقد الفكر الديني": "إن الدور التنويري للمثقفين العرب كرد ممكن على الهزيمة، تراجع لمصلحة الحركات الإسلامية الأصولية التي شكّلت البديل الوحيد المتاح للشعوب العربية، تعويضاً عن القمع والممارسات غير الشرعية للأنظمة الشمولية، ما أسهم في تداعي الحياة السياسية والاجتماعية، وفي خنق آخر حفنة أمل بالتغيير الديمقراطي والإصلاح"، ما رأيكم بذلك؟

 أنا أؤيد تشخيص ديمة وأضيف عليه: إن حركة التحرر العربي في تلك الأيام انهارت انهيارا مفاجئا ترك فراغا هائلا، فدخلت القوى الأصولية والدينية لملء الفراغ. أضف إلى ذلك، أن غياب أي برامج تطويرية أو إنتاجية إضافة إلى فساد الأنظمة العربية بمستويات عالية، أفسح المجال أمام حركات دينية مثل حماس في فلسطين والإخوان المسلمين في مصر. ونالت هذه الأخيرة شعبية كبيرة بسبب لجوء الناس إلى الدين، نتيجة الهزائم المتكررة التي لحقت بالعرب.

> ربما هذا ما يفسر الآن لجوء عدد كبير من الشباب العربي إلى الدين للهروب من الواقع الاقتصادي السيئ.

 نعم، هناك جو عام يجعلك تلجأ إلى التطرف والتشدد في القضايا الدينية، وفي الحالات القصوى تصل إلى "الطالبانية". هو نوع من الهروب المخدّر الذي يساعد الشباب على استعادة توازنهم مع غياب أي بدائل وطنية، رغم أن رجال الدين أنفسهم لا يملكون بدائل أو حلولا، وكلامهم مبني على عواطف ومشاعر مستمدة من الإسلام. والدليل على ذلك أن الثورة الإسلامية في إيران لم تقدم حلولا، لبعض المشاكل التي كانت موجودة منذ زمن الشاه.

> نلاحظ الآن أن أغلب المفكرين المتنورين يواجهون هجوما عنيفا من قبل بعض المتشددين، وكانت لديك تجربة كبيرة في هذا المجال، وتعرضت للسجن عقب صدور كتابك "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، ما السبب برأيك؟

 تعرضت في فترة الستينات والسبعينات لنقد كبير، لكن عندما أراجع كتابات خصومي الذين نقدوني أشعر بنوع من الفخر،لأنهم كانوا يحاولون التعبير عن قناعاتهم ويناقشون بشكل منطقي، ويريدون الاحتكام إلى أشياء غير العنف والتكفير والإلغاء كما يحدث الآن. في تلك الفترة كان النقاش صحياً أما اليوم فهذا النقاش أصبح شبه مستحيل.

> لكن ألا ترى معي بالمقابل أن بعض الماركسيين القدامى خلعوا عباءاتهم ليرتدوا عباءات أخرى علمانية أو حتى أصولية.

 هذا صحيح. القسم الأكبر من الماركسيين بعد فشل التجربة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفياتي رجعوا لخط الدفاع الثاني وهو قيم الثورة البرجوازية. ونحن كماركسيين كنا نعتبر أننا ندافع عن قيم أكثر تقدما من قيم الثورة البرجوازية الفرنسية والثورة الليبرالية، قيم مثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وتداول السلطة، وأرى أن قسما كبيرا من المثقفين والمنظرين الماركسيين عادوا للدفاع عن هذه القيم في وجه زحف "قُروسطي طالباني". وأعتبر نفسي اليوم في موقع الدفاع عن علمانية الدولة وديمقراطيتها واحترام حقوق الإنسان، وأعتبرها المعركة الأهم على المستوى السياسي. هناك معركة أخرى هي معركة التحول إلى اقتصاد إنتاجي، ونرجو من الأنظمة الحاكمة أن تقتنع بأهمية هذا المخرج الوحيد، لأننا الآن مواجهون إما بقانون الطوارىء وإعلان الأحكام العرفية أو نموذج طالبان.

> في معرض الحديث عن العلمانية، ثمة تعاريف كثيرة لها، كيف تعرف أنت العلمانية؟

 عرّفت العلمانية مرارا بأنها: الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والإثنيات التي يتألف منها المجتمع. وهذا التعريف يناسب العالم العربي، وأعتقد أننا إذا لم َنسِر في هذا الاتجاه، فالبديل هو حرب أهلية. في العراق مثلا لا تستطيع الدولة تطبيق الشرع الشيعي أو السني أو المسيحي، لذلك فالحل هو في تطبيق قانون محايد، هو القانون المدني. وإذا لم يريدوا كلمة حكومة علمانية نقول حكومة مدنية لأن البديل عنها هي حرب أهلية.

> بعض المفكرين الإسلاميين يقولون: إن العلمانية في العالم العربي ابتدعها نصارى الشرق لمساواتهم كأقلية مع المسلمين، ما رأيك بذلك؟

 أنا مع المساواة بين المواطنين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو غير ذلك، كما أن هذا لا يقلل من شأن العلمانية في حال ابتدعتها الأقليات المسيحية أو غيرها. في الهند مثلا أكبر مدافع عن علمانية الدولة الهندية هم المسلمون لأنهم أقلية. لنفترض أن الدولة الهندية أرادت أن تعامل الأقلية المسلمة في بلدها كأهل ذمة، لا يخدمون في الجيش ويدفعون الجزية، هل سيقبل العالم الإسلامي ذلك؟ لكن المسلمين في المقابل، عندما يكونون أكثرية ليسوا على استعداد ليمنحوا نفس المساواة للأقليات الدينية الأخرى، ويتهمون الغرب في نفس الوقت بأنه مزدوج المعايير، وهم لديهم معايير عدة. فمثلا المسلمون في الهند هم مع العلمانية، لكنهم في مصر يريدون دولة إسلامية، وفي إيران دولة إسلامية شيعية.

> يلجأ بعض المفكرين ومنهم جورج طرابيشي إلى اعتبار العلمانية "إشكالية إسلامية - إسلامية" قبل أن تكون إسلامية-مسيحية. بمعنى آخر أننا في البداية علينا حل مشكلة الطوائف بين المسلمين قبل أن نفكر بحلها بين الأديان، ما رأيك بذلك؟

 أعتقد أنه في مجتمع متعدد الطوائف والأديان مثل سورية ولبنان والعراق ومصر، إذا لم تكن المواطنة هي الأساس فالبديل هو الخراب. وهذا كاد أن يحدث في مصر في إحدى الفترات حين اعتبر الإخوان المسلمون أن المسيحيين هم أهل ذمة، لذلك يجب ألا يخدموا في الجيش ولا يمكن اعتبار قتلاهم شهداء، ويجب عليهم في المقابل أن يدفعوا جزية. لذلك أعتقد أنه ليس من مخرج سوى القبول بفكرة المواطنة أمام القانون، أي تطبيق الإسلام على طريقة تركيا.

> لكن هل يمكن تطبيق النموذج الإسلامي التركي في العالم العربي؟

 لا يمكن تطبيقه كما هو، لكن يمكن الاستفادة والتعلم منه، لأن النموذج التركي له خصوصيته. وتركيا هي البلد الوحيد الذي استطاع أن يجمع بين أمرين: تاريخ طويل من العلمانية المتشددة، وبنفس الوقت أنتجت هذه العلمانية حزبا إسلاميا ديموقراطيا حقيقيا قادرا على استلام السلطة عبر انتخابات حرة نزيهة، لا غبار عليها. وهو مستعد في حال خسر الانتخابات أن ينسحب ويصبح معارضة، ويعيد ترتيب نفسه ليستلم السلطة في المستقبل. وهي حالة فريدة في العالم الإسلامي، وهنا تكمن أهمية علمانية الدولة التركية، أنها سمحت لنمو وتطور الإسلام السياسي التركي لكي يتحول إلى حزب ديمقراطي. وهذا ما لم يحدث في أي بلد إسلامي آخر.

> وكيف يمكن الاستفادة من هذه التجربة عربيا؟

 هناك بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي، استفاد من التجربة التركية كحزب الاخوان المسلمين في مصر الذي وضع برنامجاً لإصلاح الدولة والاقتصاد، متأثرا إلى حد كبير بالتجربة التركية. وهناك محاولات أخرى في مصر لتشكيل أحزاب إسلامية على طريقة حزب العدالة والتنمية في تركيا وهو ما يفعله منتصر الزيات الآن. لدينا أيضا حزب الوسط المُحارب من قبل الحكومة والإخوان التقليديين. وبذلك نستطيع القول: إننا نلمس نوعا من المخاض لتيارات إسلامية سياسية تعيد النظر بنفسها بعد العنف الذي مارسته لسنوات طويلة.

> هل يمكن القول بإمكانية انسجام الإسلام، في الوقت الحالي، مع مصطلحات مثل العلمانية والديمقراطية والعلم الحديث؟

 أعتقد أن الإسلام التاريخي العملي والحياتي، قادر على الانسجام معها، لأنه انسجم في وقت سابق مع مجتمعات البداوة والإمبراطورية، كما انسجم فيما بعد مع الدولة الصناعية الحديثة. لكن إذا أخذت الإسلام بمعنى انه نظام مثالي مغلق، فعندها لن ينسجم إلا مع نفسه. وبعض الناس لا يتحدثون الآن عن الإسلام الواقعي التاريخي والمعاش، لكنهم يتحدثون فقط عن مجموعة مبادىء مثالية. وبرأيي أن هذه المبادىء المثالية هي للملائكة وليست للبشر، لأنهم لا يستطيعون تطبيقها، وقد قلت ذلك للشيخ القرضاوي في حوار سابق معه.

> ما رأيك بمحاولات بعض المفكرين الإصلاحيين أمثال فاطمة المرنيسي ومحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد لتطوير الفكر الإسلامي؟

 أحترم جميع هذه المحاولات، وتربطني علاقة جيدة ببعض هؤلاء المفكرين. لكن القضية تكمن في أن عملية الاجتهاد في تحديث الإسلام وتطوير أفكاره، تخرج من جماعات وأفراد من خارج المؤسسات الدينية التقليدية التي تنتج عادة رجال الدين. ومثالنا على ذلك، الأفكار الهامة التي طرحها نصر حامد أبو زيد لكنهم كفّروه وسفروه من مصر وهو يقيم الآن في هولندا. هذا إضافة إلى أفكار محمد شحرور وسيد القمني الذي أسكتوه، وفرج فودة الذي قتلوه، في حين نرى أن المؤسسات الدينية التقليدية كجامعة الأزهر والزيتونة وكليات الشريعة، تعاني حالة من العقم والتكرار والتلقين. ولا يقف الأمر عند ذلك، بل تعاني هذه المؤسسات من حالة انحدار كبيرة، بدأنا نلمس بوادرها في فتوى إرضاع الكبير والتبرك ببول النبي وحديث الذبابة.

كما أن فكرة التقريب بين المذاهب التي يطرحها البعض، تأخذ طابعا خطابيا يفتقر إلى المعالجة الحقيقية للمشكلات القائمة. والبعض يقول نحن متفقون في الأصول لكننا مختلفون في الفروع، لكنني أعتقد أن الاختلاف يكمن في كل شي حتى في الأذان. وأرى أن التغيير الحقيقي في الفكر الإسلامي لا يمكن فرضه من الخارج، إذا لم ينبع من المؤسسات الدينية التقليدية التي يجب أن تقوم بحراك جدي لمواجهة مشكلات العصر الحقيقية.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)