أرخى «الاشتباك السياسي» بين العاصمتين السعودية والسورية، بظلاله على الوضع الداخلي، خاصة أنه جاء متزامنا مع انسداد الآفاق حتى الآن، أمام أية تسوية داخلية، على قاعدة التوفيق بين مطالب المعارضة والأكثرية، فيما بدأ الاستحقاق الرئاسي يضغط على جميع الفرقاء، من أجل محاولة تحسين مواقعهم التفاوضية مستفيدين بشكل أو بآخر من «التفاوض» الجاري من حولهم، بينما كان الجيش اللبناني يستعد لدخول عتبة الشهر الرابع من المعارك المفتوحة مع مسلحي «فتح الاسلام» في مخيم نهر البارد.
وإذا كانت المخاوف قائمة مما ينتظر لبنان في الشهور المقبلة، فإن تظهير التشنج بين الرياض ودمشق، الى العلن، وإطلاق كلام سياسي حاد غير مألوف، خاصة في قاموس الدبلوماسية السعودية، زاد من المخاوف اللبنانية، لا بل هزّ الآمال التي كان قد وزعها رئيس مجلس النواب نبيه بري في الأيام الأخيرة حول حتمية التسوية والتوافق حول الموضوعين الرئاسي والحكومي وإصراره على مواصلة مساعيه لتقريب الجميع من نقطة التلاقي.
ولعل الرئيس بري الذي كان أول من أطلق نظرية «السين سين» (العلاقات السعودية السورية)، معتبرا أنها ركيزة أساسية لنجاح المبادرات الخارجية والداخلية، بدا في الساعات الأخيرة، قلقا أكثر من أي وقت مضى لما يمكن أن تتسبب به «الغمامة الجديدة» بين السعودية وسوريا، من تداعيات على الوضعين العربي واللبناني خاصة أنه كان قد تلقى إشارات من القاهرة بأن الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى أصبح متريثا وكذلك حال وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير، فكيف ستكون الأمور بعد المواقف الأخيرة لكل من دمشق والرياض؟
وهذا الواقع عبّر عنه عمرو موسى، بقوله لـ«السفير» إنه لا ينوي العودة الى بيروت لاستئناف مبادرته في المدى القريب، مؤكدا أن لا جديد عند اللبنانيين يستدعي العجلة في العودة العربية، مشيرا الى بروز وقائع جديدة تستوجب أخذها في الاعتبار.
من جهته، أبلغ الوزير الفرنسي برنار كوشنير بعض الصحافيين في العاصمة الفرنسية أنه لا ينوي العودة الى بيروت، وأنه اجتمع بالسفير الفرنسي الجديد (الذي وصل الى بيروت امس بصفة قائم بالأعمال مؤقتا) اندريه باران وزوّده بالتعليمات اللازمة، على أن يعود الى العاصمة الفرنسية في الخامس والعشرين من الجاري للمشاركة في الاجتماع
السنوي الذي يعقده الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ووزير الخارجية مع سفراء فرنسا في أنحاء العالم.
وقالت مصادر دبلوماسية فرنسية إن كوشنير فقد شيئا من حماسته بعدما لامس التعقيدات التي تحيط بالملف اللبناني دوليا وإقليميا، وهو بات مقتنعا بقرع أبواب دمشق مباشرة، وبأن تكون حركته منسقة مع السعوديين والمصريين لضمان نتائجها.
وفيما قدّر بعض المراقبين أن حدود الاشتباك الكلامي بين السعودية وسوريا لن تتطور، فإن المصادر الدبلوماسية في العاصمة الفرنسية قالت إن الاتصالات السعودية الإيرانية لم تتوقف، وإن موفدا إيرانيا زار فرنسا مؤخرا والتقى مسؤولين سعوديين وإن التوجه الإيراني السعودي ما زال يتجه نحو الحفاظ على مناخ التهدئة في لبنان.
غير أن مقتضيات التهدئة والهدنة، بدأت تهتز تدريجيا، ولو من جانب واحد. وقبل أن يعمم السطر الأخير من البيان العنيف لـ«المصدر الرسمي» للناطق باسم الحكومة السعودية، كانت آمال اللبنانيين باحتمال نجاح المبادرات تهتز وسط مخاوف من أن يتحول الاهتزاز الى انهيار في مرحلة لاحقة، حيث برز استنفار سياسي واضح من جانب فريق الرابع عشر من آذار، بالسياسة والإعلام، من أجل الدفاع عن الموقف السعودي و«رجم» الموقف السوري، وبالتالي ظهرت قابلية لدى بعض الأطراف الداخلية، من أجل «تبني» الاشتباكات الإقليمية المباشرة بدل الحيلولة دون بلوغ أضرارها الساحة اللبنانية أو محاولة الحد منها قدر الإمكان، وهو الأمر الذي كان يركز عليه الرئيس بري، فيما لوحظ أن النائب سعد الحريري وعددا من نواب وشخصيات الأكثرية انبروا للرد بعنف على سوريا ومنابر المعارضة الإعلامية مع الربط بين الموقف السوري وبدء إجراءات تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
أما دمشق، فقد بدا أنها تحذر تطوير «الاشتباك الكلامي»، وتمثل ذلك، بإعلان مصدر سوري مطلع أن القيادة السورية امتنعت عن الرد على البيان السعودي، الصادر عن مصدر مسؤول في الحكومة السعودية، أمس الأول، «تحاشيا للانجرار إلى مماحكات وسجالات إعلامية لا طائل منها».
وأوضح المصدر السوري، أمس، لـ«السفير» أن «مجرد العودة إلى نص حديث نائب الرئيس السوري فاروق الشرع الثلاثاء (الماضي) يكفي لتفنيد الادعاءات القائمة في البيان (السعودي)». وأضاف «من هذا المنطلق ارتأت القيادة السورية أن أفضل رد على ذلك البيان هو التأكيد على التمسك بالمواقف السياسية السورية، وعدم التعاطي مع الاستهدافات الشخصية، التي ترمي عمليا إلى النيل من هذه المواقف».
صفير: مخاوف كبيرة من الفراغ الدستوري
في هذه الأثناء، رسم كلام البطريرك الماروني نصر الله صفير لـ«السفير»، أمس، حول عدم ممانعته تعديل الدستور اذا كان ذلك يصب في خانة إنقاذ لبنان، ملامح مرحلة سياسية جديدة في التعاطي مع الاستحقاق الرئاسي، حيث لقيت مواقفه التي أعاد التذكير بها أمس، اهتماما كبيرا في الأوساط السياسية والدبلوماسية، خاصة أنه الموقف الأول من نوعه الذي تعلنه بكركي، التي طالما كررت وما تزال موقفها المبدئي الرافض لتعديل الدستور.
وقال زوار البطريرك صفير، أمس، إن هذا الموقف جاء مستندا الى مخاوف كبيرة من احتمال الوصول الى الفراغ الدستوري وما يمكن أن يستجلبه ذلك من معطيات تزيد من خطورة الوضع الداخلي، لا بل إن صفير صارح عددا من السفراء بأنه متخوف جدا «من خطورة الوضع واحتمالات الذهاب نحو رئيسين وحكومتين ولبنانين».
وأشار زوار الديمان الى أن صفير سيثير هذه القضية خلال زيارته الى روما مطلع الشهر المقبل، خاصة أن ظاهرة الهجرة تزيد يوما بعد يوم لا سيما من قبل المسيحيين، وفئة الشباب على وجه الخصوص، آخذا على الجميع وخاصة القيادات المسيحية أنها لا تدرك أي مآل يمكن أن تصل إليه الأمور في المستقبل.
وجدد صفير التأكيد على ما قاله لـ«السفير» أمس بأنه يوافق على تعديل الدستور اذا كان ذلك من اجل مصلحة البلد، لافتاً الى أن وضعنا اليوم على الصعيد السياسي ميؤوس منه «ولهذا فإننا نطلب نجدة السماء لان الأرض أفلست معنا».
وتمنى صفير أن يتم الاستحقاق الرئاسي في موعده، وقال ردا على سؤال حول مواصفات الرئيس المقبل «قلناها اكثر من مرة أن يكون رئيسا يمد الجسور بين اللبنانيين وأن يكون على مسافة واحدة من جميع الناس والأحزاب وأن يكون رجل خبرة في الأمور السياسية وألا يتأثر بأحد بل يستلهم ربه ويأخذ قراره بذاته».
البارد: الجيش يسيطر على نقاط استراتيجية
من جهة ثانية، استمرت معارك مخيم نهر البارد تتراوح بين السخونة والهدوء، لكنها تركّزت يوم أمس في اتجاهين: الأول تفجير خنادق وتحصينات المسلحين في المناطق التي تمت السيطرة عليها، والثاني تنظيف خطوط المواجهات الأمامية من الجيوب التي ما تزال تشكل ملاذاً آمناً ومنطلقاً للمسلحين لشن هجماتهم على مواقع الجيش، وتحديداً في مثلث ناجي العلي ومشفى الشفاء ومبنى التعاونية وأحياء: الدامون، سعسع التحتا والمهجرين، في الوقت الذي واصل فيه الجيش تعزيز نقاط تمركزه الواقعة عند تخوم المخيم.
وتحدثت المعلومات أمس عن سيطرة الجيش ميدانياً وبالنيران على نقاط استراتيجية هامة عند المحور الشمالي الشرقي، وتقطيع تواصل المسلحين بعد تدمير العديد من الممرات التي كانوا يسلكونها، مؤكدة أن المسلحين باتوا محاصرين وغير قادرين على التحرك بحرية تامة في البقعة الجغرافية الموجودين فيها، باستثناء بعض الجيوب. وأشارت المعلومات الى أن الجيش حريص على التعامل مع ما تبقى من مسلحين بكثير من الحذر، وذلك لتجنب وقوع خسائر بشرية في صفوفه من جهة، وللمحافظة قدر المستطاع على من تبقى من المدنيين.

مصادر
السفير (لبنان)