ربما سيمضي وقت ليس بالقصير قبل أن تتضح بدقة مفاعيل هذا الحجر الذي ألقته قمة بيتشك القيرغيزية في بركة أحادية القطبية الدولية غير الراكدة هذه الأيام. لكن حجر ملتقى قادة منظمة تعاون شنغهاي هذا يقول لنا من لحظة إلقائه أن من ألقوه قد أوصلوا، على أية حال، الرسالة التي يريدون إيصالها لمن يهمّه الأمر. ولسوف تنشغل الكثير من الأطراف في العالم في محاولة تفكيك رموزها غير المعقدة. خصوصاً في الغرب المعني بها، والولايات المتحدة المستهدفة بهذه الرسالة تحديداً... وسيعلّق عليها الكثيرون من مستضعفي العالم آمالاً، إن لم تكن بعض خائبة في المدى القريب، فستكون في المدى المتوسط، على الأقل، مبالغاً فيها، لكنها قد تكون واقعية في المدى الأبعد.

القمة التي كانت أصلاً قد تمحورت حول شؤون وشجون "الطاقة و الأمن"، عندما أرست بنيانها دول عضويتها الست، وهي: روسيا والصين ودول بعضها رئيسة في آسيا الوسطى مثل كازاخستان وأوزباكستان وقيرغيزستان و طاجيكستان، حضرتها إيران، التي تسعى إلى الانضمام إليها، بصفة مراقب، وبشخص رئيس جمهوريتها أحمدي نجاد... ويسود اعتقاد يرجح أن هنالك من الدول المطلّة على هذا الحوض الآسيوي من سيلتحق بإيران في سيعها لهذه العضوية مستقبلاً، مثل الهند وبنغلادش ومنغوليا... بيد أنها هذه المرة، سواء فيما صرّح به الحضور على هامشها أو من على منبرها، أو فيما صدر عنها أو تضمنه ما عرف ب"إعلان بيتشك" في ختامها، قد تجاوزت هذا الذي كانت قد تمحورت حوله أو كانت قد بدأت به.

في بيانها الختامي، مثلاً، وبعد أن وقّع مؤتمروها ثماني اتفاقيات، منها الصداقة والتعاون، والإعلان الذي مرّ ذكره، دعت الغرب ليترك "دول آسيا الوسطى تضمن أمنها واستقرارها بنفسها". وفي إعلانها إياه، حددت ما دعته مهمات بناء نظام عالمي عادل وديمقراطي، وإنشاء هيكل معاصر للأمن الدولي، وأكدت على الاتجاهات ذات الأولوية بالنسبة لنشاط المنظمة. ومن بيتشك سمع العالم، والغرب في المقدمة، وفي مقدمته الولايات المتحدة، الرئيس الروسي بوتن يكرر ما درج مؤخراً على ترداده، إثر تعاظم الشعور الروسي باسترداد البلاد بعض العافية التي هجرتها إثر سقوط الحقبة السوفيتية، وهو دعوته إلى "توطيد نظام عالمي متعدد الأقطاب"، والأهم إشادته بالتعاون العسكري بين دول المنظمة، كعامل "استقرار".

ومن ذات المكان أيضاً سمع هؤلاء المعنيون في الغرب مع العالم، الرئيس الصيني هو جينتاو يقول:

"لدى دول آسيا الوسطى فهم واضح للتهديدات التي تواجهها لذا عليها أن تضمن أمنها بنفسها" .

لكن هذا الكلام الذي صدر عن هذه القمة، أو عن بعض مؤتمريها، سوف يأخذ أبعاداً إضافية إذا ما تذكرنا أن دول هذه المنظمة كانت قد سبقت فطالبت الولايات المتحدة بسحب قواتها من آسيا الوسطى، وأن القمة قد تزامنت مع مناورات عسكرية مشتركة من قبل دولها في منطقة الأورال الروسية، يضاف على ذلك، ما عناه محاولة الرئيس الإيراني إدراج بند على جدولها عندما وصف الدرع الصاروخي الأمريكي في أوروبا بأنه "تهديد يتخطى بلداً واحداً، ليطاول القسم الأكبر من القارة، آسيا بمجملها، وخصوصاً أعضاء المنظمة".

لكن ما يزيد من ذلك، ويعد مدعاة قلق إضافي من عودة ما لأيام الحرب الباردة، هو ما استتبع القمة من قرار أصدره الرئيس بوتن يقضي بعودة القاذفات الروسية الإستراتيجية بعيدة المدى إلى التحليق وإعادة نشرها، بعيد توقفٍ دام خمسة عشر عاماً نتيجة قرار اتخذه سلفة يلتسن، وكان أول غيثها ذي الدلالة تحليقها قرب جزيرة غوام في المحيط الهادي حيث القاعدة الأمريكية المعروفة.

لكن قد يكون علينا إزاء كل هذا عدم المبالغة في الاستنتاجات والالتفات إلى الحقائق التالية:

التي تبدأ بأن بيتشك لم تعلن لنا عن قيام حلف جديد مهمته مواجهة القطب الأمريكي الوحيد المتفرد بقرار العالم، هذا الصائل والجائل فيه وكأنما هو مزرعته أو مشاعه، و العائد له وحده بحكم أحاديته التصرف بشؤونه وحق إدارته. وإن أهم دولتين أو هاتين الكبريين اللتين تقودان منظمة شنغهاي هذه، لا تريدان قطعاً مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، وليستا وإلى أمد غير قصير، هما في وارد أي مواجهة مفتوحة معها، فهما تدركان أنه لا توازن بعد قد تسنى لهما معها، وقد يستمر إلى أمد غير منظور تقريباً، لا في القوة و لا في الاقتصاد، رغم أن روسيا اليوم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً أكثر قدرة على الاختلاف مع الولايات المتحدة، وأكثر استعداداً للمطالبة بدورها العالمي الذي ترى أنها تستحقه، وأن الصين هي قاب قوسين أو أدنى من أن تغدو القوة الاقتصادية الكونية الثالثة، وفي طريقها إلى المزيد.

لكن، ومع الأخذ في الاعتبار هذه الحقائق، علينا أن ندرك أيضاً، أن روسيا اليوم ليست روسيا البارحة. وهي ولو أنها غير روسيا السوفيتية، لكنها قطعاً روسيا القادرة على نوع من التحدي، أو على مقارعة من يتهدد مصالحها التي ترى أنها تستدعي منها الدفاع المتوفر عنها. وإن الصين في صعود في كافة الحقول التي تنموا بالتوازي مع اقتصادها المتسارع النمو، وهي في هذه الحالة تريد تأمين مصادر الطاقة اللازمة والمتلازمة لهذا النمو وأسواقاً آمنة له.

وعليه، فإن وصف صحيفة روسية لقمة بيتشك بأنها قمة مناهضة الأطلسي فيه بعض من حق وكثير من مبالغة ولا يخلوا من تمنٍ لماذا؟

لأن مصالح مؤتمري بيتشك، اللذين لا يتحلّون بذات الدرجة من الحماس لمواجهة التهديد الغربي، ليست واحدة، وإنما يجمع أطرافها الإحساس بضرورة توحيد الجهود للرد على تغوّل أحادية القطبية الذي يتهدد هذه المصالح مهما اختلفت أو حتى تضاربت. على سبيل المثال، تهديدات واشنطن لطهران تؤثر على المصالح الروسية والصينية، من هنا يمكن النظر إلى دعوة نجاد للقمة مراقباً، بعد يوم واحد من إعلان واشنطن أنها بصدد إعلان الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية!

هل هو تحذير، أو تصعيد في مواجهة، أم تنازع هيمنة، ومنازعة مع تفرد؟

أجل إنه كل ذلك، وهو أيضاً محاولة عقلنة للجموح الإمبراطوري الأمريكي في عهده البوشي غير القابل للعقلنة، أو على الأقل مسعى لكبح جماحه، لكنه في كل الأحوال لم يرتقي للصدام معه بعد، وإن أشر بوضوح على ما يلي:

تحد واضح للنفوذ الأمريكي في المنطقة، ونوع من الرد على النفوذ الأمريكي في آسيا الوسطى، بل وحتى ذاك المعنون بالشرق الأوسط الكبير.

هل هو بداية ما لأحلاف تخدم هذه التوجهات؟

لعله كذلك، بل وبداية في تغيير يلوّح في بنية النظام العالمي الذي ليس من السهل بعد تغييره، والذي قد يجعل دعوة بوتن لتعدد الأقطاب حلماً ليس بعيد المنال... يرجح هذا المأزق الأمريكي المتفاقم في المنطقة... وهنا يأتي دور الأفغان والعراقيين في هذا الترجيح!