الصباح العراقية

لا شك ان العلاقات العراقية - السورية تكتسب اهمية خاصة تجتذب الباحث لدراستها ليس فقط بسبب اهمية هاتين الدولتين وثقلهما السياسي والاقتصادي في منطقة الشرق الاوسط فحسب، بل بسبب التأثير المتبادل لكل منهما في الواقع السياسي للاخرى ايضا ذلك ان كل تطور داخلي او خارجي في سياسة احداهما لا بد ان يؤثر على الاخرى بشكل مباشر او غير مباشر بشكل يفوق ما هو حاصل في معظم الدول الاخرى في العالم.

ان الباحث لا يحتاج الى بذل جهد كبير ليكتشف ان العلاقات بين البلدين كانت في اغلب فترات تاريخها يغلب عليها طابع الصراع وليس التعاون فمقابل كل فترة من الوفاق والتعاون بين البلدين كانت توجد مراحل من العداء الطويل والممتد.

غير ان واقع العلاقات بين البلدين في العصر الحديث يبدو انه لم يتغير كثيرا عن ماضي هذه العلاقات في عصر صدر الاسلام فما زال الطابع الصراعي هو الغالب عليها دون تجاهل فترات وفاق تمر كأنها سحابات صيف عابرة.

ويمكن البدء بدراسة تاريخ هذه العلاقات منذ اوائل القرن العشرين حيث كان كلا البلدين حتى نهاية الحرب العالمية الاولى جزءا من الدولة العثمانية التي دخلت الحرب الى جانب المانيا ضد دول الحلفاء بريطانيا وفرنسا وروسيا وغيرها وقد وقع العراق الذي كان يتكون من ولايات البصرة وبغداد الموصل في قبضة الاحتلال البريطاني في حين سيطرت على سوريا قوات الثورة العربية القادمة من الحجاز بقيادة الامير فيصل بن الشريف حسين الذي اعلن ملكا على سوريا وكان معظم اركان حكومته من العراقيين (مثل جعفر العسكري وياسين الهاشمي ونوري السعيد ومولود مخلص..الخ).

وفي عام 1920 وقعت احداث عديدة اثرت على مجرى التطور اللاحق للبلدين ففي نيسان من هذا العام عقد مؤتمر الحلفاء في سان ريمو بايطاليا الذي اعلن فرض الانتداب البريطاني على العراق والفرنسي على سوريا وفي حزيران من العام نفسه اندلعت الثورة العراقية الكبرى والشهيرة بثورة العشرين في محاولة لتحرير العراق من الاحتلال البريطاني وفي 20 تموز من العام نفسه 1920 وقعت معركة ميسلون الشهيرة بين القوات الفرنسية التي كانت تحاول فرض الانتداب على سوريا وبين القوات التي انتهت بأحتلال الفرنسيين لدمشق واسقاط حكومة الملك فيصل. وفي حين سلك الفرنسيون سياسة قمعية في سوريا رافضين الاعتراف للسوريين باية مؤسسات دستورية فان البريطانيين في العراق وكنتيجة مباشرة لثورة 1920 فقد قرروا اقامة حكومة ملكية في العراق تحت الانتداب البريطاني ووقع الاختيار على الملك فيصل بن الحسين الذي فقد عرشه في سوريا ليكون ملكا على العراق وقد جاء معه فضلا عن اعضاء حكومته العراقيين العديد من السوريين من امثال تحسين قدري ورستم حيدر الذين تولوا مناصب حكومية اهمها رئاسة الديوان الملكي لقد وقعت في هذه الفترة حادثة مهمة يمكن ان تؤشر بدايات الصراع بين البلدين فقد كانت الحدود بين البلدين غير محددة في هذه الفترة المبكرة من تاريخ البلدين الا انه كان خط الحدود العثماني بين الولايات العراقية والسورية هو نهر الخابور ولذلك فان مدن البوكمال والميادين ودير الزور كانت مدنا عراقية حسب هذه الحدود وقد ارسلت بريطانيا والتي كانت تمارس السيادة القانونية على العراق في تلك الفترة ضباطا سياسيين لحكم هذه المدن ولكن في اواخر عام 1919 شنت قوات سورية وعشائر هجوما على هذه البلدات واسرت الضباط البريطانيين وكان من نتيجة هذا العمل ان اعترفت بريطانيا بالامر الواقع وتم تعديل الحدود الى وضعها الحالي.

ومنذ ذلك الحين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية لم تشهد العلاقات بين البلدين اية تطورات مهمة فكلتا الدولتين خضعت لنظام الانتداب الذي يمنع الدول من اقامة علاقات سياسية او دبلوماسية الا باذن الدولة المنتدبة ولذلك اقتصرت العلاقات بين العراق وسوريا على العلاقات التجارية.

وعند نشوب الحرب العالمية الثانية اصبحت سوريا خاضعة لحكومة فيشي الفرنسية الموالية للالمان ووقع العراق-مرة ثانية تحت الاحتلال البريطاني المباشر بعد ثورة مايس 1941 وفي تموز 1941 تقدمت القوات البريطانية من العراق واحتلت سوريا ولبنان وطردت قوات حكومة فيشي واعلن استقلال سوريا ولبنان عام 1943 وقد بذل العراق بوصفه دولة مؤسسة في الامم المتحدة جهوداً جبارة لأجل الاعتراف الدولي بسوريا ولبنان وادخالهما في عضوية الامم المتحدة، الامر الذي اوجب تحققه شكر الحكومتين السورية واللبنانية للحكومة العراقية.

وفي اواخر الاربعينيات وقعت سلسلة من الانقلابات العسكرية في سوريا كان بعضها يدعو الى ضم سوريا الى العراق كحل لازمة عدم الاستقرار السياسي.

في سوريا ولاجل تقوية موقفها في وجه اسرائيل وهو الامر الذي كاد ان يتحقق لاكثر من مرة وتحمس له العقيد سامي الحناوي احد قادة الانقلابات العسكرية في سوريا وكذلك تحمست له العائلة المالكة في العراق آنذاك ورئيس الوزراء نوري السعيد ولكن انقلابا عسكريا اخر بقيادة اديب الشيشكلي ادى الى تدمير خطط الوحدة ومنذ ذلك الحين اصبحت الوحدة بين البلدين هاجسا قويا لدى الشعب في البلدين في حين ازداد وبنفس المستوى العداء بين الطبقات الحاكمة في البلدين.

ففي عام 1958 اقيمت الوحدة بين مصر بقيادة عبد الناصر وبين سوريا وكان النظام الملكي في العراق معاديا لهذه الوحدة مما احدث قطيعة بين البلدين وحالة من التوتر والمؤامرات استمرت حتى سقوط النظام الملكي العراقي بعد ثورة تموز 1958 ومع ان اقامة الوحدة بين العراق والجمهورية العربية المتحدة مصر وسوريا كان احد اهداف ثورة العراق الا ان هذا لم يحدث بل دخل البلدان في حالة من العداء والهجمات الاعلامية استمرت حتى بعد انفصال سوريا عن مصر عام 1961.

وفي عام 1963 لاحت فرصة اخرى للوحدة بين مصر وسوريا والعراق عندما حدثت خلال شهر واحد ثورتان في 8 شباط و8 اذار 1963 في كل من العراق وسوريا قادهما حزب البعث في كلا الدولتين وبعد مباحثات مع مصر اعلن ميثاق 17 نيسان للوحدة بين البلدان الثلاثة ولكن الميثاق لم يطبق نتيجة لرفض مصر للوحدة الفورية بعد تجربة عبد الناصر في وحدة عام 1958 مع سوريا وفيما بعد اطيح بحكم البعث في العراق على يد الرئيس عبد السلام عارف في تشرين الثاني 1963 وفي سوريا في شباط 1966 ورغم عودة البعث الى الحكم في العراق عام 1968 وفي سوريا عام 1970 الا ان البلدين لم يتحدا ابدا بل ان العلاقات بين البلدين ازدادت عدائية لان كلا جناحي حزب البعث السوري والعراقي اعتبر كل منهما نفسه الممثل الحقيقي لحزب البعث واعتبر الطرف الاخر بمثابة انشقاق عن المبادئ الاساسية للبعث واقيمت قيادة قومية في كلا البلدين اعتبرت نفسها بمثابة القيادة الشرعية ومن الواضح ان هذا الصراع الذي اكتسى طابعاً ايديولوجيا لم تكن له علاقة بالايديولوجية بل كان صراعاً على السلطة فكلاً الفرعين لم يكن يقبل زعامة الاخر للحزب ومن ثم للدولة الموحدة.

وفي حرب اكتوبر 1973 اشترك الجيش العراقي بفعالية على الجبهتين المصرية والسورية رغم انه لم يتم ابلاغ العراق بموعد الحرب وانما سمع بها من الاذاعة وكانت لمشاركة الجيش العراقي دور فعال في حماية دمشق من السقوط بيد القوات الاسرائيلية التي وصلت الى مشارفها ومع ذلك لم تسمح القيادة السورية بمرور القوات العراقية في دمشق في طريق عودتها الى العراق.

وفي عام 1978 لاحت فرصة اخرى لتحسن العلاقات بين الدولتين فبعد ان قامت مصر بعقد اتفاقية كامب ديفيد قام كل من العراق وسوريا بمحاولات للتقارب فيما بينهما باتجاه عزل مصر عربياً لمنع اطراف عربية اخرى من ان تحذو حذوها وعقدت بين سوريا والعراق اتفاقية العمل المشترك وتم توحيد بعض المؤسسات في خطوة اولى للوحدة الكاملة بين القطرين غير ان بعض الاطراف في القيادة العراقية وخصوصاً نائب رئيس مجلس قيادة الثورة صدام حسين ومؤيديه اعلنوا عن وجود مؤامرة ضد نظام الحكم اشتركت فيها اطراف من داخل القيادة العراقية وبتأييد من سوريا وان الغرض منها ان يصبح حافظ الاسد رئيساً للدولة الموحدة واعدم اعضاء القيادة العراقية امثال محمد عايش وعدنان حسين وكان النزاع على القيادة واضحاً هذه المرة واعقب هذا الحادث قطع العلاقات كافة بين البلدين بما فيها امكانية سفر مواطني كل من البلدين الى الاخر.

وبعد اندلاع الحرب العراقية الايرانية اتخذت سوريا- وليبيا- موقفاً معادياً للعراق ومسانداً لايران خلافاً لجميع الدول العربية ومعظم دول العالم التي ايدت العراق. وايدت سوريا وقدمت المساعدة لفصائل المعارضة العراقية في حين ايد العراق المعارضة السورية وخصوصاً حزب البعث الجناح الموالي للعراق.

وبعد احتلال العراق للكويت انتهزت سوريا الفرصة وانضمت الى التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة لاخراج القوات العراقية من الكويت لكن سوريا لم تحصل على ما تبتغيه اقتصاديا وسياسياً من هذه المشاركة فالى جانب الدعم الاقتصادي فقد كانت سوريا تبحث عن دعم اميركي في المفاوضات المرتقبة مع اسرائيل والتي اعلن انها ستعقد بعد انتهاء العمليات العسكرية ولكن شيئاً من هذا لم يحصل حيث لم تحصل سوريا على حصة مناسبة من منافع اعادة اعمار الكويت التي ذهبت الى الشركات الاميركية والبريطانية كما ان الولايات المتحدة لم تستجب للدعوات العربية للضغط على اسرائيل التي بقيت متمسكة بموقفها بعدم الانسحاب من مرتفعات الجولان السورية.

ونتيجة للمصلحة المشتركة للطرفين السوري والعراقي في التقارب فقد حدث نوع من التقارب بين الطرفين جسدته زيارات للقيادات العراقية الى سوريا والتي ادت الى توقيع اتفاقات للتعاون الاقتصادي بين البلدين وبما فيها اتفاق لاعادة ضخ النفط عبر الاراضي السورية الذي توقف عام 1982.

وبعد الاحتلال الاميركي للعراق دخلت العلاقات العراقية السورية في مأزق جديد فقد شعرت سوريا بقلق لوجود القوات الاميركية في العراق المجاور لها وهذا يعني ان تحشر بين مطرقة اسرائيل وسندان الولايات المتحدة فقد كانت هناك رغبة اميركية معلنه بتغيير جميع الانظمة في الشرق الاوسط لذلك كانت هناك مصلحة سورية اكيدة بعدم استقرار الوضع في العراق وهذا الامر هو الذي دفع الولايات المتحدة الى اتهام سوريا بدعم النشاطات المعادية لها في العراق وايواء اركان النظام السابق ويبدو ان سوريا اتخذت بعض الخطوات لوقف عمليات التسلل من اراضيها باتجاه العراق ورغم ذلك فان الجانبين العراقي والاميركي بقيا غير مقتنعين بهذه الاجراءات.

اخيراً يمكن القول ان العلاقات العراقية السورية تمر الان بمرحلة صعبة تنتابها الشكوك من الطرفين باتجاه الاخر وان اية محاولة لتحسين هذه العلاقات مستقبلاً لابد لها ان تبدأ باعادة الثقة بين الطرفين وايقاف الحملات الدعائية من كل منهما باتجاه الاخر واعادة الشعور بان كلا البلدين يمثل عمقاً استراتيجياً للاخر.