شفاف الشرق الأوسط

كانت النقطة الأولى في صورة العلاقات السورية العراقية الجديدة هي الإعلان عن إعادة العلاقات الدبلوماسية بعد انقطاع دام عقدين من الزمن. فعلى مدى خمسة عقود عانت هذه العلاقات من واقع التنافس والتجاذب والخلافات "الاستراتيجية". لكن أزمة العلاقات في التاريخ الحديث ربما تعود إلى أبعد من ذلك، الجمهورية العربية المتحدة لعبت دوراً فاعلاً في محاولات تقويض الحكومة العراقية التي قادها عبد الكريم قاسم، بما في ذلك دعم، وتسليح العناصر المناوئة له، والتي حاولت الانقلاب عليه أكثر من مرة، وبعد نجاح حزب البعث العراقي في القضاء على نظام عبد الكريم قاسم في 8 شباط /1963/ وانهيار دولة الوحدة، ثم ثورة 8 آذار 1963 في دمشق شهدت العلاقات بين سوريا، والعراق تحسنا ملحوظاً.

لكن حزب البعث في العراق شهد وبشكل سريع تصدعا نتيجة صراع داخلي بين جناحيه المدني، والعسكري، واصطلح على تسمية الجناح الأول بـ«بعث اليسار» أو «جماعة سوريا» بينما سمي الآخر بـ«بعث اليمين» حيث بلغ هذا الصراع أشده في 13 تشرين الثاني/1963/ حيث حلت القيادة القومية للحزب (والتي كان مركزها دمشق) قيادة العراق، وتولت حكم البلاد حكماً مباشراً.

بعد ذلك انقلب ضباط الجيش العراقي من القوميين على البعثيين في 18تشرين الثاني من العام نفسه، وأقاموا حكومة برئاسة عبد السلام عارف (الذي قتل في حادث طائرة قرب البصرة عام /1965/) الذي كان وحدوي التوجه، وحاول مراراً التقرب من سوريا البعثية، ومصر الناصرية، وتم التوقيع على معاهدة للدفاع المشترك بين سوريا، والعراق ساهمت بموجبها وحدات عسكرية سورية إلى جانب القوات العراقية في مواجهة التمرد في كردستان العراق.

الخلافات بين الجناحين اليساري السوري، واليمين العراقي بدأت بالظهور بشكل جلي بعد ذلك بقليل، وخصوصاً بعد تسلم الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد مقاليد الأمور في دمشق عام /1970/ وبعد تسلم صدام حسين زمام الأمور رسمياً في العراق عام/1979/ واندلاع الحرب مع إيران في /1980/ اختارت سوريا الوقوف إلى جانب طهران في الحرب مما أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام /1982/ بعد أن اتهم العراق سوريا بتهريب الأسلحة إلى العراق عن طريق سفارتها ببغداد، من جانبها سوريا اتهمت النظام العراقي بإثارة القلاقل والعمل على زعزعة الأمن، والاستقرار في سوريا من خلال دعم جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، واستمرت العلاقات بين البلدين متوترة، وزادت توتراً بعد أن قررت الحكومة السورية المشاركة في القوات الدولية التي أخرجت القوات العراقية من الكويت عقب الاحتلال العراق عام /1991/ ولكن العلاقة تحسنت نسبياً، وحصل تقارب بين دمشق وبغداد إبان الفترة التي فرضت فيها العقوبات الدولية على العراق.

بعد سقوط نظام صدام حسين من قبل قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، توالت الاتهامات الأمريكية للحكومة السورية بعدم ضبط حدودها مما يساعد على تسرب "الإرهابيين" إلى العراق، وهو تنفيه سوريا دوماً، وتجلى التعاون السوري في هذا المضمار بشكل خاص بعد تسليم السلطات السورية سبعاوي إبراهيم حسن التكريتي الأخ غير الشقيق للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، والمطلوب من قبل الحكومة العراقية، والسلطات الأمريكية إلى بغداد.

الجانبان السوري، والعراقي عقدا سلسلة من المحادثات في العام الماضي تتعلق باستئناف العلاقات الدبلوماسية الثنائية، وتبادل السفراء، لكن دون تحديد موعد لذلك. وقد دعت الحكومة العراقية المؤقتة الحكومات العربية إلى إرسال سفرائها إلى بغداد، لكن تلك الحكومات لم تكن متحمسة لهذه الخطوة لاسيما بعد اختطاف، وقتل عدد من الدبلوماسيين العرب. إلا أن هذه المحادثات وصلت أخيراً إلى نهايتها بعد أن أعلنت سوريا، والعراق رسمياً إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد قطيعة دامت أكثر من عقدين من الزمن، ورفع العلم السوري في بغداد، والعلم العراقي في دمشق إيذاناً ببدء صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين الجارين بعد أن كانت تنظم العلاقات السورية العراقية من قبل بعثة رعاية مصالح تشرف عليها الجزائر، وكانت كل من دمشق، وبغداد قررتا استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما خلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية السوري وليد المعلم إلى بغداد، وزيارة المعلم للعاصمة العراقية هي الأولى لمسؤول سوري بهذا المستوى منذ سقوط نظام صدام حسين.

يعتبر المراقبون الاتفاقية الأمنية التي وقعها كل من وزير الداخلية السوري اللواء بسام عبد المجيد، ونظيره العراقي جواد كاظم البولاني، صفحة جديدة للتعاون الأمني بين البلدين، حيث اتفق الجانبان قي المذكرة الأمنية على تبادل البحوث، والخبرات التي من شأنها تطوير سبل وطرق مكافحة الجريمة، وتنص المذكرة على تعاون الطرفين لتطوير أنظمة المراقبة الحدودية، وتبادل المعلومات حول الأنماط المختلفة للجرائم المنظمة المتعلقة بالاقتصاد، والمخدرات، والمؤثرات العقلية، والتزوير، وسرقة السيارات، والآثار والتحف الفنية، وتهريبها، والاتجار غير المشروع، ولضمان سير، وتنفيذ المواضيع المتفق عليها بالشكل الأمثل اتفق الجانبان على عقد اجتماعات دورية للجان المتابعة الفرعية كلما اقتضت الحاجة.

إن معظم الأحزاب العراقية المؤتلفة الآن في الحكومة العراقية لقيت الدعم، والعون من سوريا، وانطلقت من سوريا في نضالها ضد استبداد صدام حسين، والسياق التاريخي كان دعم سوريا للمعارضة العراقية، ولقوى الشعب العراقي بوجه طغيان صدام حسين، واستبداده، وذلك تبعاً لمصالح دمشق السياسية التي كانت تفرز نتائجها بين الفينة، والأخرى. حقيقةً يجب أن تكون العلاقات العراقية السورية علاقات مزدهرة قائمة على أساس خدمة المصالح المشتركة للشعبين الشقيقين، وعلاقات مستقرة لا يشوبها أي تشويش، أو خلل.