تشهدُ الساحةُ العربية توتُّراً بين دمشقَ والرياضِ في ما يبدو صفحةً جديدة من الخلافات العربية التي لا يَكاد يُغلَقُ فيها بابٌ حتى تُشرَّع لها أبوابٌ وتطِلَّ الفتنةُ بقُمقُمها من جديد...

ولكنَّ اللافتَ في واقع الحال أن ما يجري من تلاسُن واتهامات بين "الشقيقتين" يأتي في سياقٍ إقليمي ودولي لا يخفى على أحد، وإن كان الظاهرُ فيه أن دمشقَ تأخذُ على الرياض غيابها عن اجتماع جيران العراق في العاصمة السورية، وترميها بعدم الفاعلية في الاضطلاع بدورها العربي وبما يمليه عليها موقُعها وما بها من قبلة للمسلمين، إضافة إلى السجال حول "اتفاق مكة". ويأتي الردُّ السعودي ليعيد السهم إلى راميه مُتَّهِما دمشق بأنَّ هواها وافق هوى طهران ومؤكِّداً أن الفاعلية التي تطلُبها هي التسليمُ بصواب سياساتها والخوضُ مع الخائضين في طهران و"حزب الله". ولا شكَّ أن الغيابَ عن مؤتمر دمشق كان رسالةً تؤكِّد عدم رغبة السعودية في التعامل مع الحكومة العراقية الطائفية التي تأتمر بأوامر طهران، كما أنها تعبيرٌ ضمنياً عن رفض التوجهات الإقليمية السورية التي تراها بعيدة عن مبادرة السلام العربية...

كما لو أن سيناريو الصيفِ الماضي يتكرَّر، ففي هذا الشهر، بعد أن وضعت الحرب بين إسرائيل و"حزب الله" أوزارها، شهِدت المنطقةُ أزمة بين سوريا وكل من مصر والسعودية والأردن أثارها خطاب الرئيس السوري الذي حمل فيه على القادة العرب ووَصَفَهم بأقذعِ الأوصاف، وذلك من منطلق الخلاف في إدارة الصراع مع إسرائيل. فسوريا تفضِّل تحصينَ العلاقة مع طهران و"حزب الله"، والتمسُّكَ بلبنان استراتيجياً ونفوذاً، والتصدي لقوى 14 آذار، وإدارةَ الصراع مع إسرائيل بعيداً عن المسار التفاوضي العربي. وتدُلُّ قراءةُ سوريا للوضع الراهن على حالةٍ من الاطمئنان الإقليمي والدولي، الأول نابعٌ من التلاقي مع تركيا وإيران تجاه كردستان العراق، أما الثاني فيستَنِد إلى الموقف الدولي لموسكو حيث يعزِّزُ التحرك الروسي مسارَ طهران وسوريا بصورة أو بأخرى، ويشجِّعها في ذلك ترنُّح السياسة الأميركية في العراق وأفغانستان.

سوريا تفضِّل تحصينَ العلاقة مع طهران و حزب الله ، والتمسُّكَ بلبنان استراتيجياً، وإدارةَ الصراع مع إسرائيل بعيداً عن المسار التفاوضي العربي•

ولا يمكنُ قراءة الوضع الإقليمي دون التطرُّق إلى إسرائيل، فهذا الجفاء العربي يتزامنُ وانتخاب بنيامين نتنياهو، المحسوبِ على "الصقور"، لرئاسة "الليكود"، وهو الذي يرى أن مبدأ الانسحاب المنفرد سَقَط في حرب تموز 2006، بدعوى أن الخروج من جنوب لبنان عام 2000 قد عزَّز قوة "حزب الله" وشرعيته، كما أن ترك غزة عام 2005 عزز نفوذ "حماس". ويقفُ نتنياهو ضد اتفاقات "أوسلو" ويعارضُ تقسيمَ القدس ويتمسكُ بأرض إسرائيل الموعودة في التوراة. وهكذا فإن عودة "اليمين" المتشدِّد ليمسك بزمام الأمور في البلاد سيقوِّض التعاطي مع المسار السوري عبر الحمائم الإسرائيليين الذين يجدون التفاوض مع السوريين أسهل منه مع الفلسطينيين، فلا وجود لأماكن مقدَّسة في الجولان التي يمكن جَعلُها منزوعة السلاح، كما أن إبرام صفقة مع سوريا سيكمِّل طوق السلام مع لبنان ويَعزل القضية الفلسطينية ليسهل الإجهازُ عليها، وذلك كله بهدف قطع أوصال تحالفِ دمشق الاستراتيجي مع طهران. ولكن "الصقور" الإسرائيليين يرون أن سوريا لا تملك قرار السلام وذلك لتشابكها عقائدياً مع طهران و"حزب الله" و"حماس"، ومن جهتها ترى سوريا نفسَها صاحبةَ مشروع قومي لا مَحيد عنه يَستَمِد شرعيتَه من الصراع العربي الإسرائيلي ذاته. في هذا السياق، تتسابق الدولتان إلى التسلّح، فقد حصلت سوريا على أسلحة حديثة من موسكو وطهران، وفي المقابل اعتمدت إسرائيل ميزانية باثني عشر مليار دولار هي الأضخمُ في تاريخها، إضافةً إلى الدعم الأميركي المقدر بثلاثين ملياراً. وإذا كان الجناحُ المؤيد لطهران هو الذي يضغط اليوم في دمشق لإقناع متخذي القرار بالمبادرة إلى إشعال الحرب في هضبة الجولان وجرِّ إسرائيل إلى حرب استنزاف من منطلق اقتناعهم بضُعف وهشاشة وضعها الداخلي، فإن "الصقور" الإسرائيليين يرون أن ما حدث ويحدث من حرب ميلشيات مع "حزب الله" و"حماس" عزَّز الوحدة الوطنية لدى الشعب الإسرائيلي، كما أنه أدى إلى توجُّه شعبي نحو "اليمين" المتشدد لأنه الكفيل بحفظ الأمن القومي الإسرائيلي وإعادة مجد المؤسسة العسكرية الذي عفَّر أَنفَه ذات صيفٍ في تراب جنوب لبنان. ومن منطلقات القوة تسعى إسرائيل إلى جعل كفتها أقوى من دول الجوار عسكرياً واقتصادياً، وبذلك فهي لا ترغب في وجود توازن عسكري في المنطقة من دون أخذ القدرة النووية في الاعتبار لأنه الخيار الأخير في الصدام المسلح، كما أنها تدرك أن الانقسامَ العربي والإسلامي بشأن العراق، والمسارَ التفاوضي والمسلح في فلسطين، والوضعَ اللبناني، وانتشارَ الحركات والميلشيات الإسلامية، وحلقاتِ الانتماء العقائدي والقومي من شأنها كلها أن تساهم في تردي الوضع العربي أكثر مما هو عليه، بل ولم يسبق له مثيل في تاريخ الدول العربية. وهكذا تجد إسرائيل نفسها في وضع إقليمي ذي مسارات مختلفة ومتضاربة أحياناً، وبالتالي لن تضطر لسلوك طريق الحرب ما دام ذلك يتيح لها خيارات متعددة.

أما عن احتمال حدوث مواجهة عسكرية بين تل أبيب ودمشق لإعادة ترتيب القوى والأوضاع السياسية في المنطقة، والتي تُعدُّ مواجهةً مباشرة مع إيران وحلقات التحالف مع سوريا و"حزب الله" و"حماس"، فإننا نميل إلى تصورين: الأول يتعلق بمتخذي القرار الإسرائيلي، فإذا ما تبنَّوا استراتيجية المواجهة العسكرية، فإن ذلك يَسهل حدوثُه قبل أن يكون لموسكو تواجُد عسكري بحري مكثف في سوريا، لأن أي تحرك إسرائيلي تجاه سوريا بعد ذلك سيؤدي إلى زعزعة الوضع الدولي، وهو ما يخدم سياسات موسكو.

أما التصور الثاني، فإن تواجد واشنطن في المنطقة ودخول موسكو سيطوِّقان الدول الإقليمية ويجعلان تحركاتها محدودةً بسبب تزايد الاعتماد على الدول الكبرى. وهنا تقف الأطراف الإقليمية بين دول عربية معتدلة في جانب، وسوريا وإيران و"حزب الله" في جانب آخر، وإسرائيل وقضايا الأمن والاستقرار في جانب ثالث، وهو ما يجعل إدارة الأمور تؤول إلى واشنطن وموسكو. وبالتالي فإن القوتين الكبريين ستخلقان وضعاً ردعياً مستقراً وستتفاوضان على المكاسب السياسية والاقتصادية الإقليمية والدولية، وتعيدان عجلة النظام الدولي إلى زمن نفوذ الدول الكبرى تَظهرُ فيه ساحاتٌ جديدة لصراعها وتنشبُ نزاعات تخوضُها قوى إقليمية نيابةً عنها... وربما لا يخرجُ ما يجري بين دمشق والرياض عن مجرد "تلاسُنٍ بالوكالة"...

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)