زيارة وزير الخارجية الفرنسي، برنار كوشنير، إلى بغداد قيل عنها أنها مفاجئة، كما جولة دافيد ولش إلى فرنسا وليبيا ليست مفاجئة، فكلها زيارات في السياق العام لما وصلت إليه الأزمة في باريس وواشنطون وبغداد.

فزيارة كوشنير تأتي قبل لقائه بدافيد ولش، آخر صقور البيت الأبيض المتبقين لحماية سيده جورج بوش. وتأتي قبل يوم واحد من زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى دمشق.ومباشرة بعد عودة الرئيس الفرنسي من عطلة العمل الشاق التي قضاها في الولايات المتحدة الأمريكية.

فالتحرك الدبلوماسي للمحافظين الجدد في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، وفرنسا تحديدا، لا يخرج عن سياق الأزمة التي تعانيها إدارة المحافظين الجدد الأمريكية في مشاريعها وخططها. خصوصا أنها اعتبرت أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي سيكون الحصان الجديد الشاب الذي سيتولى المهام الفاشلة التي أوكلت يوما للبريطاني توني بلير. لكن ساركوزي رغم خلفياته الأيديولوجية وقناعاته لا يرى أن الأسلوب الأمريكي والخطط الأمريكية قادرة على وضع العقيدة موضع التنفيذ بل يذهب أكثر من ذلك باعتبار أنه يجب إنقاذ العقيدة والقناعات بطرق مختلفة. ويبدو صحيحا ما تتناقله أقبية وأروقة السياسة الخارجية الفرنسية أن لا خلاف بين الولايات المتحدة وفرنسا حول الأهداف بل حول الاستراتيجيات والتفاصيل حيث تكمن دائما الشياطين.

ولش صقر بوش الأخير يحط في باريس حاملا مجموعة من الملفات التقليدية طالبا من فرنسا ليس دعم الإدارة الأمريكية بل مساعدتها على إدارتها وهو ما تم الاتفاق عليه في لقاء بوش – ساركوزي في البيت العائلي، خاصة أن ولش يعرف تماما أن ثمة ترابط سببي واضح يبدأ بإسرائيل وجودا ونهجا.

ويعرف ولش أن الرئيس بوش الذي حاول من خلال حربه في العراق أن يعزل المسألة العراقية عن القضية القومية، قضية فلسطين، قد خسر هذا الرهان وبات العراق أكثر من أي وقت مضى جزء لا يتجزأ من هذه القضية ويعرف أنه بحربه على لبنان ومشروع تصديره للديمقراطية عبر الحروب الأهلية الباردة والساخنة في لبنان أعاد لبنان أكثر من أي وقت مضى خطرا يتهدد إسرائيل وأحرق أوراقه وأوراق حلفائه هناك.

وهنا بات مطلوبا من فرنسا أن تعود إلى دور ألإطفائي وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المشروع الأمريكي. لتأتي زيارة وزير خارجيتها وهي الأولى من نوعها لوزير فرنسي إلى بغداد بعد احتلالها، ليلعب هذا الدور وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا مشروع المحافظين الجدد، الذين يشاطرهم الوزير الفرنسي، اليساري كما كان توني بلير، الكثير من آرائهم ومواقفهم ويخالفهم في الكثير منها أيضا وخاصة أنه كان من اشد المتحمسين لحربهم في العراق.

الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وفريقه يعتبر أن مجرد قبول الرئيس بوش بدور فرنسي سيشكل له رافعة هامة ويعيد باريس إلى واجهة الدول الفاعلة في المنطقة والعالم. من هنا لا يرى مانعا من لعب هذا الدور وهو متحمس جدا للعبه طالما أنه يفتح أمامه أبواب العالم التي أغلقها الانتصار الأمريكي خاصة أبواب العالم العربي التي اقفلها الكاو بوي الأمريكي على فرنسا.

فكوشنير في بغداد له دلالات واضحة مهما حاول الناطقون الرسميون في وزارة الخارجية الالتفاف عليها ومهما حاول القصر الجمهوري التخفيف من دلالتها، فهي الحدث في العلاقات الفرنسية – الإيرانية- السورية – السعودية كما في العلاقات الأمريكية – الفرنسية.

ورغم أن كوشنير لا يعتبر صانعا للسياسة الخارجية الفرنسية إلا أنه المنفذ الناجح لهذه السياسة التي بدأت تتضح معالمها بانتظار مؤتمر سفراء فرنسا.

فهذه الزيارة ( غير المفاجئة ) تأتي لتحميل القيادة العراقية الباحثة عن دعم إقليمي بعد أن خذلتها الولايات المتحدة، كما تفعل عادة مع كل حلفائها حين ينتهي دورهم، رسائل ود وتفهم لدور دول الجوار. فكوشنير لا يستطيع دعم القيادة العراقية ولا يملك أي ورقة ما لم تعطيه الولايات المتحدة ودول الجوار أوراقا ليلعبها والمطلوب من السيد المالكي أن يسهل له امتلاك هذه الأوراق وأن تتحول القيادتان العراقية والفرنسية إلى دور الوسيط في الصراع الإقليمي- الدولي القائم حاليا من المتوسط إلى الخليج ومن الخليج إلى بحر قزوين.

الذين يعرفون كيف يفكر فريق ساركوزي يعرفون بوضوح أنه لا يبدأ اللعب قبل إن يضمن الربح فكل مغامراته محسوبة حتى الفشل يشكل عنده خطوة ( ضرورية ) للقفز.

ويعرفون أيضا أنه كان يركز على الخطأ الأمريكي في العراق وهكذا يصبح هو القادر على تصحيح هذا الخطأ كصديق.

وكوشنير صديق القضية الكردية المزمن في فرنسا والصديق الشخصي للراحل ميلو الذي سقط في تفجير مبنى بعثة الأمم المتحدة في بغداد يعرف تماما لماذا ومن قتل هذا الصديق الشخصي الذي خدم معه في كوسوفو وتأتي زيارته لبغداد في الذكرى الرابعة لاغتياله كما يحلو له أن يقول وهذه عناصر فصداقته للرئيس العراقي جلال طالباني كما صداقته للراحل ميلو والأمم المتحدة ودورها في العراق تجعله في موقع وسيط مقبول في بغداد وما سيطرحه من مشروع حل يقبل به الآخرون في المنطقة وفي العراق يبدو مقبولا طالما أنه يحمل ضمانات أمريكية وقبول أمريكي بما يجب أن يكون عليه الوضع وطالما أن الإدارة الأمريكية، كما تقول باريس، باتت تقبل بالتفاوض في الملفات الخلافية العالقة مع دول المنطقة الفاعلة.

المشكلة أن الإدارة الأمريكية في هذه المتاهة تعرف أن الخاسر الأول والأخير من هذه الصفقة المعقدة التي عقدها بوش مع ساركوزي هم حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وأن تنازلات الإدارة الأمريكية والمحافظون الجدد لن تكون على حساب الولايات المتحدة ولا على حساب فرنسا بل على حساب الآخرين الذين راهنوا على وفاء الكاو بوي واليانكي لأصدقائه أو على ابتزاز فرنسا المتعلقة بثقافتها الفرانكفونية. فالأول لم يف يوما والثاني بات أكثر عقلانية وواقعية. والمصالح الأمريكية الاقتصادية والمالية تم تأمينها يبقى أن تؤمن مصالحها السياسية. هذه المصالح السياسية بات واضحا أنها ليست مع حلفائها بل مع خصومها ولهم ستقدم التنازلات وفرنسا هي وسيط هذه التنازلات ف ولش وكوشنير وساركوزي مولجين بتأمين خروج هادئ للمحافظين الجدد من المستنقع الشرق أوسطي قبل خروج بوش وتشيني من البيت الأبيض.

وبالتأكيد لن تكون مفاجئة زيارات مماثلة لكوشنير إلى بيروت ودمشق وموسكو وطهران خلال الشهرين القادمين فكل شيء بات مرتبا وناضجا تبقى التفاصيل التقنية حيث لا تكمن الشياطين.