لايعيشون إلا في دائرة الأسئلة، دوامة ليس فيها إلا القلق. ماذا بشأن الرئاسة الاولى؟ ماذا بشأن احتمالات الحرب، لبنانية - “اسرائيلية” أو اقليمية؟ اضافة الى سؤال مضمر آخر، يثير المخاوف أكثر: ماذا عن احتمالات عودة الحرب الأهلية؟

أسئلة تشد اللبنانيين الى كل كلمة ينطق بها سياسي، علهم يجدون فيها نثاراً من إجابة. لكن ثمة من يعرفون ان كلمته، أحبوه أم كرهوه، تشكل معياراً ودلالة اكبر من سواها.

بهذا الحس انتظروا خطاب نصرالله في ذكرى الانتصار التموزي. فبدا، من السياق العام مشغولاً بمسألة الحرب، أكثر منه بمسألة (الرئاسة) بحيث تشكل خطابه من مجموعة كبيرة من الرسائل المضمرة والمباشرة. رسائل اذا كانت قد استهدفت علناً فرضية الحرب “الاسرائيلية” - الأمريكية على لبنان، فإنها ضمناً توصل الرسالة الى الفريق الذي يمكن أن يفكر بتفجير الحرب الأهلية بدعم أمريكي - “إسرائيلي” والى حدّ ما أوروبي.

الرسائل تفصيلية ومدروسة ويمكن تجميعها وتلخيصها تحت العناوين التالية: تصليب محاور الجبهة الداخلية حول المقاومة، بحيث تتدرج هذه المحاور من الدائرة التي تتشكل من جمهور المقاومة الذي نال حصة الأسد من الخطاب الذي استنفر كل وسائل وامكانات الشحن والتصليب والتحفيز والتطمين، الى الدائرة الثانية التي تتشكل من الحلفاء والمتضامنين من الشعب اللبناني بكله، شد السيد بقوة على كل مفاصل الوحدة الوطنية، والالتفاف اللبناني العام في وجه العدوان الخارجي، وتحمل الخسائر التي يمكن ان تلحقها “اسرائيل” بالوطن، واحتضان الشريحة التي تطالها الحرب بشكل مباشر. أما الدائرة الثالثة فهي الدائرة العربية والاسلامية التي لم يهملها سيد المقاومة، وأخيراً الدائرة الرابعة والعالمية والتي حرص على أن يؤكد لها على توجهه المسالم بأن يقول مشددا إننا لا نريد الحرب ولا نسعى اليها، ونحاول تجنبها.

غير أن الرسالة الأهم هي تلك التي وجهها الى “اسرائيل” نفسها، فقد شن حرباً نفسية سياسية مدروسة وذكية باتجاه، خطه الأول هو منع الحرب، وخطه الثاني هو ضرب معنويات “الاسرائيليين” في حال حصولها. ففي سياق منع الحرب، كان استعراض القوة، وبشكل يوحي بمصداقية عالية، وكان إظهار الالتفاف حول المقاومة، وكان الضرب على الفصل بين المسؤولين “الاسرائيليين” أنفسهم، خاصة باراك وأولمرت اللذين يملكان الآن قرار الحرب، كرئيس للوزراء ووزير للحرب يرأس أيضاً حزب العمل وبالتالي يرشح لرئاسة الوزراء.ولم يكن نعت باراك بالذكي لكونه يرفض الحرب، إلاّ حثّاً لهذا الأخير على التمسك بهذا الموقف الرافض.

وبما أن خطاب نصرالله لم يأت في فضاء فراغ محلي،عربي واقليمي، فإنه لا بد من الانتباه الى أنه جاء بعد هزيمة الموالاة في انتخابات المتن، كما انه لابد من ربط روحيته بالكلام الكثير الذي يدور حالياً حول معركة “اسرائيلية” شاملة تجمع لبنان وسوريا وغزة. كلام يترجم على الأرض بالمناورات “الاسرائيلية” في الجولان والنقب، والتي كشفت الصحف “الاسرائيلية” عن كونها تتضمن تدريبات على حرب المدن، واعادة تأهيل للواء الجولاني الذي فقد الكثير من هيبته في الجنوب اللبناني وخاصة في معركة بنت جبيل، خلال حرب تموز الماضي. كما يترجم بحديث السياسيين والاعلام “الاسرائيليين” عن تسلح سوريا واستعداداتها للحرب، في سياق تبريري لحرب ممكنة. كما كلام سوريا عن تزودها بأسلحة جديدة ومتطورة، وآخرها بدء تنفيذ صفقة الدفاع الجوي مع روسيا. حديث وصل وسائل الاعلام العالمية التي توقع عدد منها، من مثل لوموند الفرنسية ونيويورك تايمز الأمريكية، الحرب، إن لم يكن هذا الصيف ففي موعد آخر.

واذا كان بعض المحللين يستبعدون خيار الحرب، اذ يعتبرون أن “اسرائيل” ترفع اللهجة الحربية لاستعادة هيبتها المفقودة، ومعنويات شعبها وجنودها، من دون أن تفكر جدياً بالحرب، وانها تتذكر قول شارون عام 1982: “الجنرالات يعرفون ان “اسرائيل” اذا خسرت الحرب في معركة واحدة، فإن الخسارات ستتوالى معركة إثر الأخرى”. فإن الرد على ذلك هو في أن هذه المعرفة لم تمنع من شن الحرب بعد فشل اجتياح 82 وبعد التحرير.

غير أن ثمة عوامل دولية اقليمية وداخلية قد تؤثر فعلاً في منع قرار الحرب، ومنها تبلور تحالف منظمة شنجهاي وتوسيعه، اذا عرفنا كيف نستفيد منه. خاصة انه يشكل ضوءاً في آخر نفق الآحادية الأمريكية، يبشر بعودة صيغة ما للتوازن الدولي.ومنها غرق الولايات المتحدة أكثر فأكثر في المستنقع العراقي، إلا إذا فكرت ادارة بوش بأن تفجيراً إقليمياً قد يفيدها في هذا المأزق. لكن العامل الأقوى هوالعامل الداخلي. فإذا كان استطلاع مركز حاييم هرتزوغ للدراسات قد دل على أن ما يقرب من أربعين في المائة من مواطني “اسرائيل” لم يعد يؤمن ببقائها، وربط ذلك بهزيمة تموز، فإن الأمر الوحيد الذي من شأنه أن يصحح هذا الوضع هو تحقيق انتصار: إما على الساحة السياسية، وإما العسكرية. وفي حال اللجوء الى الثاني، فإن الحرب النظامية على سوريا، وعلى غزة هي التي يمكن ان تعطي الدولة العبرية فرصة أفضل، لكنها حرب ستقتضي أيضاً مشاغلة الجبهة اللبنانية.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)