إذا كانت ثمة قناعة أميركية أنه بعد الفشل في العراق وفي أفغانستان لا بد من فرض نجاح أميركي على الأقل في لبنان بدحر المعارضة بموجب الخطوط العريضة للقرارات الدولية، ونجاح آخر في فلسطين بالإغداق على الضفة وتجويع غزة، وبدفع الفلسطينيين لقبول أي شيء تعرضه إسرائيل للتخلص من الوضع الراهن، فسوف تدفع أميركا إلى المواجهة والخراب في هذه البلدان.

يفترض أن هذه لحظة حلفاء أميركا في هذه البلدان. وإذا توفرت لديهم أجندة وطنية فلا بد أن تجعلهم قادرين على تخيل وفاق وطني وتسويات توفر على البلاد المواجهات والخراب. بإمكانهم أن يوجهوا للسياسة الأميركية نصائح واقعية تنطلق من عدم قدرتهم على حسم الصراع محليا، ولا حتى بالمال. فيأس حماس من السلطة وبدء مقاومة في الضفة الغربية مثلا من شأنه أن يحبط كل مشاريع المؤسسات البحثية حول شبكة أمان ممولة غربيا تحل محل جمعيات حماس الخيرية، ومبادرات اقتصادية يطلقها رجال أعمال في مؤتمر تل أبيبي. بإمكانهم أن يؤكدوا ضرورة الوفاق الوطني تجنبا للخراب. فتوازن القوى المحلي يختلف عن توازن القوى في مجلس الأمن، وفرض الأول على الثاني أمطر المنطقة بوابل من الكوارث. نعلم أن تقديرنا هذا هو تمنٍ، وربما يقتصر على مجرد تمن وردي إذا اعتبر هؤلاء القوة الأميركية الجامحة في ظل رئيس مغامر فرصةً لفرض أجنداتهم المحلية، وربما يوجهون نصيحة مقلوبة لأميركا.

ولم نذكر هنا ضرورة أن يوجه حلفاء سورية وإيران في هذه البلدان نصائح مماثلة لحليفتيهم، لأن الوفاق والتسوية الداخلية والدعوة للحوار في فلسطين والوحدة الوطنية في لبنان هو موقفهم المعلن.

جرت العادةُ على إدانة الأجنبي أو «البعض» لكي لا تقطع شعرة معاوية. فالخلاف بين الأنطمة العربية في مرحلة استقرارها بعد توقف الانقلابات وحتى إقصاء نظام صدام حسين بعد حرب الكويت أصبح نوعا من التنوع ضمن المصلحة الواحدة في الحفاظ على الاستقرار. وعندما تمت الإدانة أو توجيه الاتهام أو تعيين عنوان المؤامرة كان يقال بنفس واحد إن وراءها تقف «الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية»، كأنه ثالوث، أو شر بثلاثة أقانيم، يتحمل المسؤولية عن آخر قتال داخلي فلسطيني، وآخر تجدد لإطلاق النار في آخر زقاق في بيروت. ولم يشعر أحد، ولا حتى إسرائيل، بالحرج من التهمة. وتظاهر الجميع بأنها طريقة ثورجية في تسجيل ملف لحساب مجهول.

تعني سايكس- بيكو، كما عنت النكبة أنه لا يوجد «شأن عربي» داخلي. وقد كتب على الصراعات الداخلية أن تعكس صراعات خارجية أو تورطها فيها. وعندما صنفت علاقة القوى السياسية العربية مع القوى العظمى والقوى الخارجية بشكل عام في عصر دول المماليك والدولة السلطانية هذا، لم يتم التمييز عادة بين قوى وطنية يختلف المصنف معها وهي متحالفة لأسبابها مع قوى أجنبية من جهة، وعملاء واختراقات أمنية حقيقية، أي افراد وقوى تأتمر فعلا ومباشرة بأمر القوى الأجنبية من جهة أخرى. والعلاقة مع الخصم تتفاوت حسب التكيتيك فإما أنه «رغم كل شيء يبقى عربيا»، وهو بالتالي جزء من عائلة عربية ينبغي أن تتوحد ضد المستعمر، أو أنه «عميل» و»جاسوس».

ونحن لن نتطرق هنا الى من يمكن اعتبارهم اختراقا أمنيا أو عملاء بالمعنى المباشر للكلمة، أي يأتمرون بأمر أجهزة أجنبية دون المرور بقناة رسمية أو وطنية. نقول ذلك رغم أن ما صدر عن بعض المسؤولين السابقين في الإدارت الأميركية من كتب (روس وتينيت على سبيل المثال) ثبتت أنه حتى لهؤلاء عُرِفَ دورٌ في صنع القرار لأنهم كانوا على الأقل مصدر معلومات. وقد انتقوا المعلومات التي قدموها لأميركا عشية الحرب على العراق، أو عشية مؤتمر كامب ديفيد بين باراك وعرفات بموجب رغباتهم وميولهم، فاعتبروا العراق ثمرة ناضجة للقطف، وعرفات جاهزا لقبول ما يطرح عليه لو فقط خصص له كلينتون وقتا كافيا ليفعل سحر الرئيس السابق مفعوله على عرفات. أما النتائج الكارثية لهذه المعلومات اللقيطة فغنية عن التعليق.

ولكننا نتساءل عن دور القوى ذات المصالح المختلفة المتحالفة مع أميركا لأسبابها، والتي تدرس حاليا حتى المجاهرة بإمكانية التحالف مع إسرائيل، ولا يمكن اعتبارها «اختراقا أمنيا» لأنها تمثل مصالح وأمزجة وميولا قائمة في النظام، وحتى في بعض القطاعات الاجتماعية الضيقة.

ونحن نستهجن أن تعرف كمجرد طرف ضعيف ومستضعف أو غبي عاجز عن التحليل أو مجرد قوى مأمورة. فجميع هذه التوصيفات هي برأينا عبارة عن تقييمات غاية في التسطيح والتبسيط، ولا بد أن تقود بالتالي إلى سلوك خاطئ. فقد نشأ في المنطقة العربية جيل من السياسيين المقتنعين بالدولة القطرية وضرورات وضع مصالحها المتماهية مع مصالح النظام أولا، أي فوق كل اعتبار. وهذا يتطلب تحالفا مع أميركا ولو على حساب العلاقات مع الدول العربية الأخرى. وقضية فلسطين هي في نظرهم قضية قطرية أيضا وليس قضية قومية، ولكن على العرب المساهمة في تسويتها، وليس بالضرورة حلها حلا عادلا، لأنها تشكل مصدر قلاقل وإزعاج للاستقرار، ولأنها تساهم في تسليح القوى المحلية المعارضة بمادة غضب مستمر، ونقمة على تحالف النظام مع الغرب، ونزع شرعية من مرجعيات ما فوق الدولة مثل القومية والدين.

لقد أخطا بعض الديموقراطيين العرب، خاصة من ذوي الأصول اليسارية في تحالفهم، السافر أو المستتر، مع التدخل الأميركي لصالح الإصلاح والديموقراطية. كانوا واهمين. وقد انهارت مناعتهم أمام سياسة الامبراطورية نتيجة للموقف المتشنج والشعاراتي المعادي حتى للعناصر الحداثية في القومية العربية ومساواتها بالأنظمة. فكانوا مكشوفين دائما، مرة لسحر الثورة العالمية، ومرة لسحر الديموقراطية المعولمة كسياسة امبراطورية يراهن عليها... كانت القوة التي يراهن عليها بنظرهم دائما خارجية. ونحن لا نقصد هؤلاء عند الحديث عن القوى المتحالفة مع أميركا حاليا، بل نقصد حكاما ومن يحيط بهم من أقارب وأصدقاء ورجال أعمال حديثي النعمة ومثقفين «نيوليبراليين». هؤلاء لم يعرفوا اليسار أصلا، وما من زاوية دافئة في قلوبهم لقضايا الديموقراطية وحقوق المواطن والليبرالية السياسية. وكل ما يعرفونه من الليبرالية هو الخصخصة الاقتصادية لصالح المقربين سياسيا، ونهب الدولة وثرواتها تحت شعارات تجاوز البيروقراطية والانفتاح الاقتصادي. وهذه في الواقع ليست حتى ليبرالية اقتصادية. ولكنها الجهد الوحيد الذي يشهد نجاحا منهجيا في العراق وسط الخراب والحرائق. كنا في الماضي إزاء نقاش بين انظمة مقترحة من نوع ديموقراطية وديكتاتورية وارستوقراطية فبتنا إزاء «كليبتوقراطية» (تعني في قاموسنا حرفيا: حكم الحرامية او السراقين).

هذه الأوساط النيوليبرالية «الكليبتوقراطية» كما عرّفناها ليست مجرد دمى مسيّرة. فقد باتت أقوى في المعادلة الأميركية العربية بعد التدخل في العراق. إذ لم تعد أميركا تهددها أو تبتزها لتقوم بإصلاحات، بل هي مضطرة للاعتماد عليها كما هي. ولديها تقييمات وأجندات. وهي تحاول أيضا كسب القوة الأميركية العظمى لصالح أجنداتها إقليميا. وفي جعبة هذه القوى تصور يعتمد على تحليل غير واقعي، وتشخيص مبني على فتات معلومات مجتزأة ومنتقاة وآراء مسبقة حول النظام العربي القديم، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو خاطئ، ومنها ما هو مجرد شعارات، وعلى معلومات دعائية الطابع حول إسرائيل واستعدادها للسلام وتفويت العرب للفرص.

منذ فترة باتت مفاهيم «عروبة المعركة او الصراع» و «صراع الوجود مع إسرائيل» مواضيع استهزاء وتهكم. من نوع تهكم المراهقين الجهلة الذين اكتشفوا مظاهر بلوغ جسدي ويصعب محاججتهم ولا يستمعون أصلا قبل ان يتجاوزوا هذه المرحلة. وهي لم تكن شعارات بأي حال بل مرحلة حقيقية في فهم ما يجري اقترب فعلا من الواقع. ولم يتفهموا يوما مسألة «حركة التحرر»، ويرون واقعيا ضرورة التسوية مع إسرائيل، ويلومون الفلسطينيين على تفويت الفرص التي لاحت. ولكن قراءتهم للواقع ومستوى معرفتهم لإسرائيل بهذه القراءة واعتمادهم الكلي على حسن نواياها هي أحد عوامل التعنت الإسرائيلي، وإحدى محفزات شهية إسرائيل لابتزازهم أكثر. وهي قراءة تتميز بعدم الواقعية لناحية استعداد الولايات المتحدة للتأثير على إسرائيل واستعداد إسرائيل لحفظ ماء وجوههم. أما من ناحية المعلومات، فمعلوماتهم أقل من الجيل العربي السابق، ولا شك أن جيل عبد الناصر والبعثيين القدامى كان أكثر واقعية وأقل فسادا بما لا يقاس.

والأخطر ان أوساطا واسعة من هذه القوى لا تقع تحت الضغط الاميركي لأغراض المواجهة مع ما تعتبره التيار الرافض للتسوية في المنطقة فحسب، بل لديها اجنداتها ايضا التي باتت تضيق ذرعا بالمعسكر العربي الآخر الذي لا يشاركها تقييماتها غير الواقعية ومواقفها. فهنالك من ينشر أوهاما يؤمن بها فعلا عن خطر شيعي. وهنالك من ينشرها دون أن يؤمن بها. وهنالك من ضاق ذرعا بالخطاب السياسي السوري غير المتواضع بشأن دور سورية وحجمها وإمكانياتها. وهو يتفهم مطلب سورية استعادة الجولان خاصة إذا كان مصاحبا بنيوليبرالية اقتصادية داخل سورية، دون محاربة الفساد بالضرورة، ومستعد ان يقف معها في الجهدين مثلما يقف حاليا مع القيادة الفلسطينية بعد فك ارتباطها مع حماس، ولكن على سورية ان تتنازل عن اي دور في العراق ولبنان وفلسطين وغيرها. وأن تتحول الى دولة أخرى معنية بتسوية خلاف حدودي مع إسرائيل... وإذا لم ترغب سورية بذلك فيجب عزلها وتلقينها درسا هنا ودرسا هناك. وما يهمس عربيا في أذن أميركا بخصوص دور سورية مهم. فكما نصحت اميركا بكيفية التعامل مع العراق في حينه، وكما نصحت أميركا بكيفية التعامل مع عرفات، تقدم لأميركا النصائح في كيفية التعامل مع إيران وسورية.

لا بد ان أحدا ما قد حلل لرايس قصة الخلافات السورية الإيرانية. وهي بنت عليها سيناريو متفائلا ومغتبطا لصراع كامل بينهما تحدثت عنه بطلاقةِ من حظي بالاستماع الى مصادر عربية يحرم الاسرائيليون من الاستماع إليها والاستمتاع بها مباشرة. ولا بد أن احدا يقترح إشغال حماس بضمان الغذاء والدواء والوقود في غزة، بتشديد الحصار ورفعه، وفتح الحنفية وإغلاقها، في حين يفاوض آخرون على امتيازات ومساعدات وإعلان مبادئ.

ولكن لسبب ما يتضح دائما ان التحليل خاطئ وغير واقعي ومبني على شتات معلومات جمعت لماما لتناسب الفرضية، فمن ناحية الاختصاص والتشخيص والخبرة ليس هؤلاء بأفضل حال من الأنظمة التي يتهكمون عليها. وان انهيار النظام في سورية وتراجع حزب الله أمام إسرائيل في لبنان وتحول العراق الى دولة حليفة للإدارة الأميركية وإسرائيل اذا ما اسقط نظام صدام حسين، كلها تمنيات وأضغاث أحلام ما لبثت ان تحولت إلى كوابيس.

وليس في في قلوبنا أدنى شك أن مصير هذه الأحلام في لبنان وفلسطين ان تتحول الى كوابيس إذا لم يحصل انتقال سريع إلى لغة الوفاق الوطني وحل الخلافات داخليا.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)