في غفلة من التشاؤم الثقافي العربي المزمن, سجل معرض الكتاب في دمشق لهذا العام لحظات تفاؤل مدهشة, فهناك من الزملاء الإعلاميين من جاء إلى المعرض بحثاً عن إجابة لسؤال لماذا لا يقرأ السوريون, كمحور لمادة إعلامية. وبعدما اطلع على حركة البيع والشراء اضطر لتغيير السؤال ليصبح هل يقرأ السوريون وماذا يقرأون؟
وعلى الضد من التغطيات المتجهمة للمعرض والانتقادات الكثيرة التي علقت على اجترار حركة النشر الموضوعات والعناوين ذاتها كل موسم, وهو أمر غير صحيح, فقد كانت كمية العناوين الجديدة لا بأس بها, ولوحظ أن هناك إقبالاً كبيراً على الكتاب قياساً إلى المعارض السابقة, وأن جمهوره مازال حياً يرزق على الرغم من الجنازات المصرة على تشييعه إلى مثواه الافتراضي. فجناح الهيئة العامة المصرية للكتاب حيث الكتاب الشعبي الأرخص ثمناً, تسابق الزوار إلى إفراغ أرففه من الكتب من اليوم الأول. وفي أجنحة كتب الدين والتراث, تهافت المهتمون بالتراث والمتدينون واشتروا الكتب بالعشرات. وفي أجنحة الأطفال, توقف الزوار الصغار مع أهاليهم في طوابير طويلة لأخذ حصتهم من القصص الملونة والألعاب الطريفة. أما الدور التي تُعنى بالأدب الإبداعي والترجمات الفكرية, فلم تخل من زوار كثر وجدوا شيئاً مما يبحثون عنه. ولم تعدم كتب الطبخ وتفسير الأحلام زبوناتها المواظبين الكثر من الذين ينتظرون حولاً كاملاً للتزود بمجموعات منها.
ومع أن جديداً حقيقياً لم يطرأ على عالم النشر, والأسعار كانت كاوية والحسومات واهية, والنشاطات الثقافية المرافقة باهتة, والممنوعات المرغوبة كثيرة, إلا أن حركة الشراء تصاعدت بشكل مدهش هذا العام وخصوصا في اليومين الأخيرين!! وكي يبطل العجب سنتكهن بالسبب أو الأسباب التي جعلت محب الكتاب يقبل على محبوبه وينثر عليه ما في جيوبه من قروش معدودات. ومنها أسباب كانت رمية من غير رام, حيث إن موعد المعرض تقدم شهراً عن موعده الاعتيادي, لأن حلول شهر رمضان سيتزامن مع الموعد السابق, فبورك الشهر الفضيل الذي كان وراء فصل المسارين: معرض الكتاب وأيام افتتاح المدارس والجامعات, التي تشفط ثلاثة أرباع ميزانية الأسرة السورية, والربع الباقي تأكله المونة في شهر المؤن والتخزين؛ أيلول الإفلاس والتفليس.
وظهرت مزايا آب اللهاب على الكتاب الذي استولى على جزء من ميزانية التصييف بدون تكليف, وبما أننا نعلم أن إدارة المعرض آخر ما تهتم به هو اقتصاد المنازل وانعكاسها على سوق الكتاب, نأمل منها أن يكون نجاح الموعد هذه المرة فرصة لتضع في حساباتها مواعيد الإنفاق الموسمي رأفة بعشاق الكتاب. كما نأمل من المؤسسة السورية لتوزيع المطبوعات أن تعيد النظر بسياستها التطفيشية, والإمساك بحنفية الصحف والكتب المغلقة دائماً بسبب التقنين وهوس التخزين, ولتأخذ المؤسسة من هذا المعرض عبرة لها, لأن من أسباب زيادة المبيعات أيضاً هو رفع يدها عن العديد من دور النشر العربية, التي اعتادت المشاركة سابقاً من خلال المؤسسة.
لقد رأينا في هذا المعرض إقبالا كبيراً من أصحاب المكتبات في المحافظات النائية على الدور العربية المشاركة, منتهزين فرصة ذهبية بالنسبة اليهم, وهي شراء الكتب مباشرة من الناشر وبحسومات مرضية بعد مساومات لا تخضع لبيروقراطية المعاملات الرسمية والتعقيدات الروتينية الطويلة, وهي الأسباب ذاتها التي تجعل الكتب والمطبوعات المستوردة أسيرة مستودعات المؤسسة تتغذى عليها الفئران والجرذان المخملية النهمة للثقافة الرفيعة التي لا تغني ولا تسمن من جوع, في وقت يحلم قراء المناطق البعيدة بالحصول على الكتب ويتكلفون أعباء استجرارها من وراء الحدود بأضعاف ثمنها.
ولا تنكر أي دار عربية أهمية السوق السورية, لكن علة احتكار المؤسسة للتوزيع أعيت من يداويها, والحجة جاهزة دائماً للتغطية على سوء الإدارة, بأن القراءة تراجعت كثيراً, وأن الكتب غالية جداً, دون الإجابة عن سؤال بديهي, كيف يشتري الناس بضاعة لا يتم توفيرها في منافذ البيع؟ ومع هذا كثر جاؤوا إلى المعرض بحثاً عن عناوين منعت كـ«برهان العسل» لسلوى النعيمي و«القبيلة الضائعة» لإبراهيم محمود, أو نامت في أدراج الرقابة لا معلقة ولا مطلقة كـ«رواية مشهد عابر» لفواز حداد.
السؤال عن الكتب الجديدة والمفتقدة إن دل على شيء, فهو يدل على أن لدينا جمهور متابع ونهم يتأثر بالدعاية, فلماذا يترك طعماً سائغاً للثقافة الاستهلاكية السريعة, ولا نفرج عن الكتاب ليصل إليه بحرية, مثلما تترك القنوات الفضائية بعجرها وبجرها لتجرفه إلى حيث يريد سوق التتفيه والتسطيح الثقافي؟
استحقاق تضعنا أمامه صبية صغيرة كادت أن تبكي لتحصل على ديوان جوزيف حرب «المحبرة» عندما اكتشفت أن ما لديها من مال لا يكفي لشرائه, فطلبت من مدير الجناح حسماً خاصاً لأنه لن يعثر على قارئ يحبه أكثر منها. وشاب عرض أن يدفع كل «خرجيته» لشراء أكثر من كتاب مقابل حسم خاص لديوان محمود درويش الجديد. ومغترب مسن اشترى كتب مذكرات سياسية وكل ما له صلة بتاريخ سوريا مطلع القرن العشرين, كأجمل هدية للأصدقاء يعود بها من وطنه الأم... الى ما هنالك من زوار لم يبخلوا بإظهار إخلاصهم الشديد للكتاب في زمن استمرأنا فيه النواح والندب على جثة ثقافة شئنا أم أبينا مازالت حية تسعى, لكنها للأسف لا ترزق إلا بأوصياء كسالى همهم الوحيد الاستثمار في سجن ثقافة تحتاج إلى من يشد أزرها, لا من يعتاش على النهش والنهب والعويل عليها.

مصادر
الكفاح العربي(لبنان)