ينذر شهر أيلول (سبتمبر) المقبل بالأهوال. في منتصفه، يبدأ في لبنان العد العكسي للاستحقاق الرئاسي، بينما ينتظر الكونغرس الأميركي تقرير قائد قوات الاحتلال في العراق الجنرال بيترايوس والسفير الأميركي في بغداد السيد كروكر، لتقييم مدى قابلية نجاح أي خطة للسيطرة على الموقف. أما في فلسطين، فالاقتراح الأميركي حول «اجتماع دولي» لا يفعل سوى تعبئة قربة مثقوبة. وهكذا تبدو الأيام الجارية وكأنها «فترة سماح»، شيء من قبيل هدوء ما قبل العاصفة. مع التحفظ على صفة الهدوء التي قد تنطبق أكثر ما تنطبق على لبنان الذي، وإن كان مصطخبا بالتصريحات النارية، فهذه تبقى كلاما، بينما يسيل الدم غزيرا في سواه.

انتشرت قناعة عامة بوجود ترابط بين مصائر الحالات الثلاث. وبينما يمتلك الوضعان العراقي والفلسطيني أسبابا كافية تجعل كل منهما رئيسيا، وإن تنافسا حول من هو من بينهما صاحب الموقع الحاسم اليوم، فما زال اللبنانيون يعتمدون لغة «رسمية» تقوم على تبادل الاتهامات حول خدمة «أجندات خارجية»، وتحويل لبنان إلى «ساحة»، و»حروب الآخرين»، وهو ما يكشف ربما عن إدراكهم لثانوية موقعهم والتحاقيته بالقضايا الكبرى تلك. إلا إن ذلك الجدل حول تراتب الأهميات ليس معبرا ولا قيمة له في الواقع. بل ستقرر الإدارة الأميركية الموقف في أيلول المقبل، الذي يتراوح بين الاتجاه للبحث عن تسويات وبين قرار تعميم الصدام. سينجلي قريبا تصارع الاتجاهات القائم داخل الإدارة الأميركية، فضيق الوقت الذي بات شعارا في المنطقة هو في الحقيقة ضيق وقتهم هم، إذ يدخل الرئيس بوش عمليا في سنة حكمه الأخيرة، وهو ملاحق من كونغرس يسيطر عليه الديموقراطيون ويريد إثبات فشل ما قام به، لاعتبارات تتعلق بتنافسات السياسة الداخلية وآليات السيطرة على السلطة أكثر مما تخص المواقف المبدئية. فهل ينتصر الاتجاه الذي يدعو الى الخروج من عنق الزجاجة العراقي ومن الاستحالة التي يواجهها الوضع الفلسطيني بواسطة توسيع دائرة الصراع في المنطقة عبر توجيه ضربات لإيران وسورية؟ يعرف أصحاب هذا الاتجاه أن قرارا من هذا القبيل يعني إشعال نيران حروب لا يمكن حصر مداها، وأن ساحتها ستشمل كافة دول المنطقة. معلوم أن المفاوضات الأميركية – الإيرانية قائمة على قدم وساق، وأن أطرها متنوعة كما الأطراف المشاركة فيها، وتندرج ضمنها الاجتماعات العلنية التي عقدت في بغداد نفسها، كما تلك التي عقدت في دمشق وفي اسطنبول، وأن مواعيد مقبلة مشابهة محددة. ولكن التفاوض لا يعني استبعاد خيار الحرب. فما الذي سيحصل؟

قد يمكن استقراء طبيعة القرار الذي تتجه الإدارة الأميركية لاعتماده انطلاقا من الحلقة الضعيفة، أي لبنان، (مما يرمم التفاخر اللبناني!). ما زال الخيار الأميركي غير واضح لهذه الجهة على رغم الممارسة التي يعتمدها السفير الأميركي السيد فيلتمان، الذي يدلي بتعليق سياسي يومي أشبه بأمر عمليات، يتناول أدق دقائق الموقف في لبنان (سيصل به الأمر قريبا إلى التدخل في تعيين مخاتير القرى وتفصيل صلة ذلك بالأمن القومي الأميريي ومصالح القوة العظمى!). بدا لوهلة أن حماسة الإدارة الأميركية لتوريط الجيش اللبناني في ما سمي «المواجهة مع الإرهاب»، والذي ما زال يحيط بمسرحه ألف علامة استفهام، مؤشر إلى اتجاهها نحو خيار استخدام لبنان كصاعق تفجير لتوسيع دائرة العنف والفوضى. ولكن سرعان ما ضُبطت حدود تلك العملية ولم تتجاوز ما قامت عليه، أي المأساة التي حلت باللاجئين الفلسطينيين في نهر البارد من جهة، والخسائر الفادحة التي تكبدها الجيش من جهة أخرى. بل هي أبرزت مؤسسة وطنية متماسكة، بدت مرغمة على القيام بمهمة قذرة، فأدت دورها بأكثر الأساليب حذرا وتحفظاً، محيطة حركتها بخطاب سياسي لا يطابق بالتأكيد هوى الأميركان، خطاب يشدد على تعيين إسرائيل كعدو وحيد، ويعيد التأكيد في كل مناسبة على شرعية مواجهته في الماضي كما في المستقبل. وهكذا، وبمقابل إدقاع وتفاهة الطبقة السياسية اللبنانية، ظهرت قيادة الجيش كنخبة مغايرة، تحظى بإجماع ثقة وطني. وتوج الأمر تصريح قائد الجيش الأخير الذي نسب «فتح الإسلام» إلى القاعدة حصرا، نافيا أي تورط لسورية أو لبعض الأطراف الحكومية في التحكم بالظاهرة، مجففا المستنقع الآسن الذي غرق فيه السجال السياسي الداخلي. وقد وصل الأمر بالسيد وليد جنبلاط أن أدلى بتصريح بمناسبة عيد الجيش أناط فيه به وحده مسؤولية قرار السلم والحرب! وهو وإن كان يقصد نزع سلطة مثل هذا القرار من يد المقاومة، إلا انه نسي في معرض غرضه أن الجيش يُفترض به أن يتبع قرار الهيئة السياسية الحاكمة في البلد! وعلى أية حال، فإن هذا السياق هو ما يجعل الجيش اللبناني (أو قائده) يظهر اليوم كالحل الوحيد المتبلور إزاء الانقسام العمودي الجامد الذي ما زال يشطر البلد ويعطل آفاق البحث عن مخارج.

ولكن ذلك ليس إلا ظاهر الأشياء وآخر الحلول ربما. فما زال السؤال يتعلق بالقرار الأميركي حيال مجمل المنطقة وليس لبنان. هل يتغلب الجنون، وتتجه الإدارة الأميركية إلى الهروب إلى الأمام حيال فشل النموذج الذي أرادته في العراق، وحيال تفاقم المشكلة الفلسطينية، وهما عنوان عجزها عن ممارسة تفوقها وسيطرتها، واكتفائها منهما بالمغانم المافياوية والآنية أي الأسرع، ومخططات السطوة بمعناها الأكثر عنفا وفجاجة، وهي جميعها تؤشر إلى أبرز ملامح النيوليبرالية في طورها الراهن.

سنعرف ذلك في الأسابيع المقبلة!

ملاحظة أخيرة: يدرك الناس الترابط ويدركون الموعد، وهم في حالة رعب مشروع تماما، يتشبثون بسؤال «ماذا سيحصل؟»، عسى الجواب عليه يحمل بعض الطمأنة، عساه يكون تعويذة ضد الخراب. إلا أن ما يغيظ تماما، فهو موقف أولئك الذين يعتقدون أنهم قد يغنمون وسط الخراب المحتمل، ليس لانعدام أخلاقية موقفهم، بل لاتساع وتكاثر أعدادهم، وتحولهم إلى فئة تشمل القدامى كما مرشحين جدداً: والوظيفة هي أمير حرب.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)