تزامن الانتقادات الأميركية المتعددة لأداء رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مع زيارته الى دمشق، ساهم الى حد كبير في إظهار «استقلال» حكومته وتوفير هامش أوسع لنجاح أول زيارة له باعتباره رئيساً لوزراء العراق، الى العاصمة السورية التي كان بقي فيها سنوات لاجئاً سياسياً معارضاً لنظام الرئيس صدام حسين.

وبمجرد وصول المالكي الى دمشق الاثنين الماضي، بدأ سيل من الانتقادات الأميركية المحرجة، وعملية اخذ ورد بينه وبين مسؤولين وناطقين أميركيين، بدأت بإعلان ناطق باسم البيت الأبيض ان رئيس الوزراء العراقي يحمل الى دمشق «رسالة حاسمة» بالتوقف عن دعم المسلحين وتسللهم الى العراق. فكان رد المالكي سريعاً وحاسماً بالقول انه لم يحمل الى المسؤولين «رسالة من أحد» بل جاء بـ «رسالة عراقية» الى سورية بعدما فعل الأمر ذاته بزيارتيه الى إيران وتركيا، مفادها ان أمن العراق بات من أمن دول الجوار وان اي انهيار للعملية السياسية فيه سينعكس سلباً على دول الجوار.

كذلك، لم يتأخر أيضاً في الرد على انتقادات الرئيس الأميركي جورج بوش وسفيره في بغداد رايان كروكر وتعبيرهما في شكل متزامن عن «خيبة الأمل» إزاء أداء المالكي، وعلى دعوة السيناتور كارل ليفين الى إقالته. بل انه (المالكي) واجه الانتقادات الأميركية بردود قاسية، قائلاً إنها «تخرج عن اللياقات الديبلوماسية» وانه «لا توجد جهة لها الحق في وضع جدول زمني، لان حكومتنا منتخبة»، وصولاً الى ان رئيس الوزراء العراقي «لن يعيرهم (الأميركيين) اي اهتمام». وما ان وصلت هذه الردود الى واشنطن، حتى «تراجع» بوش عن مواقفه بإعلان تأييده «الرجل الطيب» في بغداد.

وحصل الجدل ذاته عندما كان المالكي في ايران قبل اسابيع، عندما اعلن بوش انه سيحمل «رسالة اميركية» في شأن تدخل طهران في الشأن العراقي وتلميحات الى البرنامج النووي الايراني، الامر الذي قابله المالكي أيضاً بـ «حزم» من انه لا ينقل سوى رسائل عراقية.

هذا الأخذ والرد بين رئيس الوزراء العراقي وقادة اميركيين، ساهم في الايحاء بتوفر هامش من المرونة في علاقة «المحتل» بـ «الواقع تحت الاحتلال» بحسب قناعة دمشق وطهران، وان المالكي ليس دمية في ايدي الاميركيين، بحيث قالت مصادر ديبلوماسية غربية رفيعة المستوى لـ «الحياة» في دمشق: «لم يكن متفقاً على هذا السجال بينهما، لكن، لا شك انه ساعد المالكي خلال زيارته».

ربما يكون ساهم في تطوير الخطاب السياسي السوري ازاء العراق. لكن من الخطأ تحميل السجال العلني اكثر من كونه نابعاً من الوضع الداخلي لكل من المالكي وبوش. فالأول يعاني من مشاكل معقدة على خلفية هشاشة التحالف السياسي والازمة الامنية. والثاني، يستعد لـ «معركة» جديدة لدى تقويم الخطة الامنية في الكونغرس في منتصف الشهر المقبل بالنسبة الى الرئيس الاميركي.

عليه، يمكن القول ان التوجه السوري الجديد - القديم تجاه حكومة المالكي يستند الى الكثير من العوامل الأكثر أهمية والأكثر جوهرية من تصريحات اعلامية، يمكن الاشارة الى سبعة منها:

أولاً، ان المالكي اليوم ليس ذاته الذي كان في اوج الدعم السياسي الداخلي، بعد انسحاب الوزراء السنة من حكومته والدعم الخارجي بعد حملات التشكيك الأميركية ورفض دول اقليمية كبرى استقباله. ولاحظ مسؤولون سوريون هذا التغيير في لهجته، فبعد حملة انتقادات مباشرة وجهها الى سورية خلال زيارة وزير الخارجية وليد المعلم الى بغداد في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عاد وطرق الباب السوري بعدما طرق بابي طهران وأنقره.

وبحسب مقربين منه، بات المالكي اكثر اقتناعاً بأن حل المشكلة الامنية العراقية يحتاج الى مقاربة اقليمية عبر اعطاء وعود سياسية واقتصادية الى ايران و «التفاهم» على حل مشكلة «حزب العمال الكردستاني» مع تركيا وتوقيع اتفاقات اقتصادية وتفاهمات سياسية مع سورية. والعنوان العريض لكل هذه الحركة الاقليمية هو: حل المشكلة الأمنية مسؤولية مشتركة وانهيار العراق سياسياً يهدد الجميع.

ثانياً، تنامي الإدراك السوري بالمخاطر الامنية القادمة من العراق، إذ تحدث مسؤولون امنيون سوريون عن ان المخاطر الارهابية «تجاوزت جميع الخطوط الحمر»، وعن مواجهات حصلت بين قوى الامن السورية ومجموعات ارهابية وتكفيرية في الاشهر الاخيرة. وكان ظهور «فتح الاسلام» في لبنان بمثابة ناقوس خطر اضافي الى دمشق وعدد من دول الشرق الاوسط. وعلم ان مسؤولين سوريين كباراً باتوا يتحدثون في محادثاتهم الرسمية مع مسؤولين غربيين عن القلق من الارهاب القادم من العراق، ما يعني القناعة ببدء المرحلة الثانية الشاملة لـ «العائدين من العراق» بعد المعاناة من «العائدين من افغانستان». لا شك ان هذا ساهم الى حد كبير في ان يكون العمل على التعاون لتحقيق الامن في العراق جزءاً من المصلحة الوطنية السورية وعوامل الاستقرار في سورية وحكومتها.

ثالثاً، تكرر الوساطة الايرانية مع دمشق لتقديم الدعم لحكومة المالكي، ذلك ان وزير الخارجية الايراني منوشهر متقي بدأ بـ«الإلحاح» على الجانب السوري لاستقباله، وكرر الامر ذاته الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد. وبينما كانت الفجوة عميقة بين الموقفين السوري والايراني لدى زيارة احمدي نجاد في بداية 2006، راح الطرفان يبحثان عن عوامل التقارب والمصالح المشتركة ازاء الموضوع العراقي.
لاجئون عراقيون أمام مكتب الأمم المتحدة في دمشق

وعلم ان الوفد الايراني كان حرص على أن يتضمن البيان الختامي بعد زيارة الاسد في شباط (فبراير) الماضي الى طهران «دعم حكومة المالكي» بينما اصر الوفد السوري على القول بـ «دعم الحكومة العراقية». غير ان الموقف تطور بعد اتصالات متبادلة الى اقتناع دمشق بتوفير «شرعية» عربية واقليمية لحكومة المالكي وتقديم الدعم للعملية السياسية في العراق على امل ان يسير خطوات ملموسة لتحقيق المصالحة القائمة على: مراجعة مواد الدستور وخصوصاً ما يتعلق بالفيديرالية بسبب خشية دمشق من تقسيم العراق وانعكاس ذلك عليها، والغاء «قانون اجتثاث البعث» وتفكيك الميليشيات وتشكيل الجيش والامن على اسس وطنية ومهنية.

وليس صدفة ان يتزامن إلغاء زيارة نائب الرئيس العراقي عادل عبدالمهدي الأكثر حظاً بتسلم رئاسة الوزراء، الى دمشق يوم 7 آب (اغسطس) وتأكيد زيارة المالكي في 20 منه.

رابعاً، تنامي الحاجة الاقتصادية من العراق. اذ امام وجود اكثر من 1.5 عراقي في سورية وتشكيلهم عبئاً اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً، تصاعدت القناعة السورية بضرورة الحوار مع الحكومة العراقية للتعاون على ايجاد حلول لهم بعد تواضع المساعدات الدولية. وبحسب مصادر رسمية، فانهم يستهلكون اكثر من بليـون دولار اميركي في ما يتعلق باستهلاك الطاقة. كما انهم ساهموا في رفع اسعار العقارات والمواد الاستهلاكية، ما تطلب البحث عن رافعات تساعد الناتج المحلي الذي ربما يواجه ضغط تراجع الانتاج النفطي السوري.

عليه، تجوز المناقشة السورية بان يعيد العراق تشغيل انبوب نفط كركوك - بانياس بما يوفر اكثر من 1.2 بليون دولار اميركي، وتوفير فرص واسعة للشركات السورية للتعويض عن الخسائر التي تضيع على الاقتصاد بغياب الاستثمارات الخليجية والأجنبية ولتعويض عبء وجود العراقيين الذي يشكلون اكثر من 10 في المئة من عدد سكان سورية.

خامساً، حل بعض الاشكالات العالقة التي كانت تقف في وجه بناء الثقة. اذ ان المسؤولين السوريين كانوا جمدوا التعاون الامني واجتماعات اللجنة الأمنية بعد احتجاز جنديين سوريين والحكم بسجنهما سنتين. لكن تدخل المالكي وإرساله رسالة الى محكمة التمييز لاطلاقهما، ساهما في فتح الباب امام استضافة سورية اجتماع خبراء الامن يومي 8 و9 آب واتخاذ خطوات ملموسة في المجال الامني تمهيداً لزيارته واستعادة جزء من الثقة.

وكان واضحاً من خلال اجتماع خبراء الأمن لدول جوار العراق بحضور مراقبين من الدول الخمس دائمة العضوية، ان دمشق تريد نجاحه سواء لجهة حضور مسؤولين امنيين كبار بينهم وزير الداخلية اللواء بسام عبدالمجيد او رئيس شعبة الامن السياسي اللواء محمد منصورة او لجهة العمل على اتخاذ خطوات ملموسة في مجال التعاون الامني. وتمثل ذلك بمسارعة دمشق الى تعيين ضابطي ارتباط واقامة خط ساخن والسماح بتنسيق على الحدود مع الجانب العراقي.

سادساً، بناء على ما تقدم، حيث لا يمكن عزل زيارة المالكي عن خطوات سابقة. ذلك ان رئيس الوزراء السابق اياد علاوي زار دمشق في تموز (يوليو) وانجز اتفاقات ومذكرات تفاهم قبل ان تنهار العلاقات. ثم زار المعلم بغداد في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي قبل استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الحكومتين، وصولاً الى زيارة الرئيس جلال طالباني في كانون الثاني (يناير) الماضي وتوقيع اتفاق امني.

سابعاً، رغبة دمشق في ارسال «رسائل مزدوجة». صحيح ان هناك قلقاً من المخاطر الامنية في العراق ورغبة في خلق شبكة اقليمية لمنع انهيار العراق والعملية السياسية وحكومة المالكي وتقسيمه وتعاون سورية وتركيا وايران في هذا المجال، وان هناك حاجات اقتصادية وطنية، لكن الصحيح أيضاً أن أي نجاح أمني وسياسي في العراق في مساعدة دول الجوار سيترك صدى ايجابياً في واشنطن عشية تقرير السفير كروكر وقائد القوات الاميركية ديفيد بترايوس في منتصف الشهر المقبل. وهناك اعتقاد بأن هذا الصدى الايجابي سيخفف من المنعكسات السلبية للتطورات السلبية المتوقعة في لبنان في حال عدم القدرة على تجاوز الاستحقاق الرئاسي بسلاسة والدخول في احتمال تشكيل حكومتين.

ما تقدم يفسر هذا التطور الكبير في الخطاب السياسي الرسمي السوري. حيث دان الرئيس الأسد في شدة «العمليات الارهابية التي تطاول العراقيين ومؤسساتهم ودور العبادة» بعدما جدد دعم العملية السياسية والمصالحة بمشاركة جميع مكونات الشعب العراقي.

واذ لوحظ ايضا ان تغييراً حصل في تصريحات رئيس الوزراء السوري محمد ناجي عطري بالانتقال من القول ان «جدول انسحاب القوات الأجنبية، يعزز من فرص المصالحة» الى القول ان تحقيق المصالحة ودعم العملية السياسية يساهمان في «التعجيل بانتهاء الاحتلال»، فان البيان المشترك السوري - العراقي في اختتام زيارة المالكي ركز على ادانة الارهاب وان ضبط الحدود «مسؤولية مشتركة»، لكنه لم يتضمن اي اشارة الى وجود القوات الاجنبية.

ولا شك بأن هذا تغيير في الموقف اذا ما قورن بالبيان المشترك الذي صدر في اختتام زيارة طالباني في بداية السنة، لدى الحديث عن جملة اجراءات تؤدي الى «انهاء الوجود العسكري الاجنبي تمهيداً لجدولة انسحاب القوات المتعددة الجنسيات، وفقاً لقرار مجلس الأمن 1546». ويسجل أيضاً، ان الزيارة اعطت للمالكي مجالاً لإطلاع الجانب السوري على «نجاحات» حكومته في «انجاح الخطة الامنية ومحاربة التكفيريين والقاعدة وتعزيز التعاون مع الجوار»، والقول ان وجود القوات الاجنبية «شأن داخلي ومحكوم بقرارات دولية».

وأمام حديث رئيس الوزراء العراقي عن «صفحة جديدة» فتحتها زيارته الى دمشق، ستكشف الأسابيع المقبلة ما اذا كانت مشابهة لزيارتي علاوي وطالباني أم انها ستشهد خطوات ملموسة من الجانبين تشمل ترجمة التفاهمات الأمنية والاقتصادية الى واقع على الأرض.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)