حين جئت الى دمشق للمرة الاولى كانت ترن في رأسي أبيات حسان بن ثابت التي مدح بها ملوك الغساسنة حيث يقول متذكرا ايامه معهم في جلق وهو أحد أسماء دمشق القديمة :

لله در عصابة نادمتهم يوما بجلق في الزمان الاول

بيض الوجوه كريمة احسابهم شم الأنوف من الطراز الاول

وأبيات شوقي الجميلة سواء نونيته التي يقول فيها :

آمنت بالله واستثنيت جنته دمشق روح وجنات وريحان

أو في قافيته الشهيرة :

سلام من صبا بردى ارق ودمع لايكفكف يا دمشق

على أية حال , كثيرا ما لايكون التوقع مطابقا للواقع , فمن المؤكد ان بعض موظفي نقطة التنف الحدودية وشوفرية التكسيات في دمشق لايمتون باية صلة قريبة او بعيدة لبني جفنة , كما ان من الصعب تنسم شذى بردى بعد ان ابتلعت المدينة بردى وصباه .

لكن , يبقى هناك الكثير مما يمكن ان تراه في دمشق , فقد رايت دمشق وعبق التاريخ يفوح منها من كل درب وحارة وساحة , حيث تجد هنا مسجدا يرجع الى عصر المماليك وهناك مدرسة من ايام الايوبيين وذلك سوق يعود الى العصر العثماني وتلك باب اصلها من ايام الرومان , حضارات كل منها سلم الراية لاخرى في تتابع وتواصل حضاري مثير للاعجاب نادرا ما تجده في مدينة اخرى , ومن الافكار اللطيفة التي اتبعها واضعو التخطيط العمراني لمدينة دمشق ان تكون في عدد من الساحات العامة اثار جميلة مثل احد ابواب دمشق القديمة "باب توما" في الساحة المسماة باسمه أو مسقاة خيرية في ساحة الميساة الى غير ذلك من ألاثار الجميلة التي تزخر بها لا مدينة دمشق القديمة فقط بل حتى ما كانت تعتبر من ضواحيها والقرى والبلدات المحيطة بها والتي اصبحت الان جزءا من المدينة كالصالحية والمزة وسواها , وقبل ذلك كله وفوق ذلك كله الجامع الاموي مفخرة دمشق ,هذا الجامع الفخم السامق الذي هو تحفة من تحف الفن المعماري واعجوبة من اعاجيب الزمان , لايمل المرء من التطلع الى جميل بناءه وبديع زخرفته , ومجالسه العجيبة , وهذا المسجد يصل حاضر دمشق بماضيها الاموي حين كانت عاصمة اكبر واقوى دولة على وجه الارض وكانت الجيوش تخرج منها لتخضع بلاد الهند وما وراء النهر واسبانيا وحين كان امبراطور الصين والرومان وملك فرنسا يرتجفون لغضب خلفائها ويتمنون الحصول على رضاهم , وهنا ايضا

قلعة دمشق تلك القلعة الشامخة التي صمدت في وجه هجمات الصليبيين والمغول .

رايت في دمشق التواصل الحضاري بين عصورها المختلفة فدمشق الرومانية والاموية والايوبية والمملوكية قد امتزجت في تلاقح حضاري مثير للاعجاب , وهذه ميزة تتميز بها دمشق على بغداد حيث تجد فجوات تأريخية كبيرة وخاصة بعد احتلال بغداد على يد المغول وسقوط خلافة بني العباس , وتجد في بغداد ان المؤثر الحضاري الرئيس من الحضارات الماضية هو المؤثر العثماني فكأنه قد نسخ جميع ما قبله من الحضارات وغطى عليها , وأما في التأريخ الحديث فتتضح هذه الفجوات بجلاء في العهود المتعاقبة التي تعاقبت على حكم العراق منذ تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 اذ كلما جاءت امة لعنت اختها ,

والتواصل الحضاري يلعب دورا كبيرا في حضارات الامم وتطورها اذ بوجوده تتراكم الخبرات والمعارف وتشيد الامم صروحها الحضارية لبنة بعد لبنة , وعند فقده تفقد الامم ما بنته الاجيال الماضية ويصبح من الواجب على كل جيل ان يبدأ من جديد من الصفر في حين تكون اجيال الامم الاخرى التي تتمتع بميزة التواصل الحضاري قد سبقته مراحل بعيدة .

ورأيت في دمشق ان معظم الاحياء تتمتع بخدمات تكاد تكون كاملة وان الاعمار جار على قدم وساق فهذا جسر يبنى وذلك شار ع يعبد وتلك شبكة ماء او كهرباء تمد على الرغم من ان سورية ليست من الدول النفطية الغنية بمواردها وعلى الرغم من ان الا قتصاد السوري ذو موارد محدودة , ولو قارنا مستوى الخدمات في سورية بمستوى الخدمات في العراق, الذي هو دولة تمتلك واحدا من اكبر الاحتياطات النفطية في العالم , لوجدنا بونا شاسعا , ففي دمشق لاتنقطع الكهرباء الا نادرا , وشبكات المجاري تغطي معظم الاحياء , نعم هناك شحة في المياه في بعض المناطق يعود الى قلة الموارد المائية , اما في العراق فنجد ان الكهرباء لاتتوفر الانادرا ,وان الكثير من المناطق غير مغطاة بشبكة المجاري والمتوفر منها غير كفوء , وحتى الماء الذي يمتاز العراق بانه يجري على ارضه نهران من اكبرالانهار في العالم هما دجلة والفرات بالاضافة الى روافد اخرى ترفدهما كديالى والزابين هي في الحقيقة انهار كبيرة عدا عن المياه الجوفية ,ورغم ذلك كله تعاني بغداد من العطش وقلة المياه , ناهيك عن التفاوت في مجال الاسكان حيث اينما ذهبت في دمشق تجد المشاريع السكنية المكونة من عمارات كبيرة توفر للمواطنين شققا جميلة باسعار مناسبة وبالتقسيط المريح , بينما نجد في بغداد ازمة سكن خانقة ولاتجد من المشاريع السكنية الا عددا محدودا , وانا حين افكر في التفاوت في مستوى الخدمات بين البلدين مع تفاوت امكانياتهما الاقتصادية لااجد لهذا تفسيرا الاانه قد اتيح لسورية حكومة تتمتع بمقدار كبير من الكفاءة والنزاهة استطاعت ان توظف الامكانيات الاقتصادية المحدودة المتاحة لسورية خير توظيف وان تستخدمها الاستخدام الامثل لخدمة شعبها , نعم لايخلو بلد من الفاسدين والانتهازيين ولكن يبدو ان الفاسدين في سورية هم من النوع القنوع الذي يقنع بمبالغ محدودة بخلاف الفاسدين في العراق الذين اتهم احدهم يوما بسرقة عشرة ملايين دولار فضحك لتفاهة المبلغ .

ورايت في دمشق ان السوريين يرجعون اسباب كثير من الازمات الى توافد العراقيين في السنين الاخيرة , فغلاء اسعار السكن هو بسبب العراقيين وغلاء اسعار المواد الغذائية هو بسبب العراقيين وغلاء اسعار البطاطا هو بسبب العراقيين , وشحة المياه وازمة النقل ربما عزاها بعضهم الى العراقيين , وهذا الاعتقاد فيه كثير من الصحة فالاعداد الكبيرة من العراقيين الذين استضافتهم سورية ادت الى الضغط على الاقتصاد السوري , ولكن في نفس الوقت هناك مبالغة كبيرة في هذا المجال , اذ ان الغلاء يرتبط بعدد من العوامل منها التضخم الذي هو صفة ملازمة للاقتصادات الحديثة , ومنها زيادة رواتب العاملين وزيادة القوة الشرائية الذي ادى الى اقبال الناس على شراء الحاجيات الكمالية , ومنها انفتاح السوق العراقي الكبير امام المنتجات السورية وخاصة الزراعية منها , ففي قضية البطاطا مثلا كنت قد قرات تحقيقا في صحيفة الثورة السورية اكد فيه مزارعو البطاطا انهم يبيعون منتجاتهم بخسارة او بربح غير مجد , فكيف ادى توافد العراقيين الى رفع اسعار البطاطا ؟ نعم كان لفتح السوق العراقية على مصراعيها امام المنتجات الزراعية السورية اثر كبير في زيادة اسعار هذه المواد في السوق الداخلية اذ اصبح التجار يفضلون تصديرها خارج سورية , ولكن هذا في النهاية يصب في خدمة الاقتصاد السوري .

هذه ليست نهاية المطاف , فهناك الكثير مما اريد ان احدثكم عنه مما رايته في دمشق .