لم يخف وزير الخارجية الفرنسي حقيقة العلاقات الدولية القائمة حاليا بطلبه من الإدارة الأمريكية " استبدال رئيس الوزراء العراقي ". هذا الأمر لا يضيف جديدا على الحقيقة لكنه يزيدها وضوحا لمن له أذنين أن يسمع. خاصة أن تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، برنار كوشنير جاءت مترافقة مع جولة مبعوثه إلى لبنان والشرق الأوسط وشكلت استكمالا لزيارته العراقية.

ويبدو أن رسالته موجهة أساسا للذين يعتقدون أن ما يسمونه "المجتمع الدولي"، خاصة الدول الكواسر في هذا المجتمع، عبارة عن منظمات إنسانية إنما تتحرك لمساعدة الدول والشعوب كما قال الرئيس اللبناني السابق أمين الجميل على شاشة إحدى "الفضائيات" العربية، وكما يقول معظم أقطاب الموالاة في لبنان، مؤكدا أن الولايات المتحدة تساعد لبنان في تحقيق سيادته وحريته لكنه لم يقل ما الثمن الذي سيدفعه لبنان مقابل هذه المساعدة كما أنه لم يقل ماذا سيقدم القادة اللبنانيون بالمقابل و ما إذ كانت هذه "الصفقة" خاسرة أم رابحة.

كلام وزير الخارجية الفرنسي كوشنير ينهي هذا الوهم، عند الموهومين، ويعيد فرز وخلط الأوراق مجددا، على أبواب الاستحقاق الرئاسي اللبناني. ويبدو واضحا أن على اللبنانيين أن يقرروا ما إن كانوا يقبلون بأن تعين الإدارة الأمريكية رئيسهم وتستبدله ساعة تشاء وطبقا لمعايير مصالحها أو أن يقرروا القطيعة مع إدارة كهذه. وهذا قرارهم وعلى أساسه سينظر المجتمع الدولي إلى لبنان كدولة أو دمية.

كلام كوشنير يؤكد أيضا أن المشكلة بين هذا "المجتمع الدولي" حسب تعبير الدول الكواسر وبين الدول المارقة، حسب تعبير الدول الكواسر والذين يتغذون من دماء البشر ليست مشكلة خلافات بل مشكلة مقاومة هذه الدول " المارقة" وممانعتها فرض وصايات على إرادة شعوبها ومشكلتهم مع هذه الشعوب إن انبثاق السلطة عندها يأتي من حلبة الصراع من أجل الحقوق لا من صناديق اقتراع سرعان ما يندم المقترعون على خياراتهم.

ما قاله كوشنير سيجد أول تطبيقاته في لبنان بدون شك ليؤكد أن ما حصل في فلسطين يدخل في نفس المنطق، تعيين واستبدال بالتوافق أو بالقوة، وكما حصل في العراق، استبدال بالتوافق أو بالقوة. هذا الأمر خطير، ما لم يدركه اللبنانيون أنفسهم. وكان على كوشنير قوله صراحة بعدما أديرت لمبعوثه جان كلود كوسرون الإذن الصماء عند بعض سياسيي الموالاة في لبنان، الذين سارعوا لإعلان فشل "اللامشروع" الفرنسي الذي يحمله كوسرون للشرق الأوسط.

مشكلة كوشنير القادمة في لبنان هو أنه خرج عن قانون اللعبة التي كانت تتطلب السرية والكلام المنمق الذي يغري مراهقي السياسة فيه، وأنه وضع بعض القيادات اللبنانية أمام استحقاق مصيري تجاه اللبنانيين والعالم خاصة أنها في الأساس قيادات هبطت بالمظلات على الشعب اللبناني أو أعيد إحياء دورها على طريقة ما قاله الشاعر اللبناني بالمتصرف التركي واصا باشا:

رنوا الفلوس على بلاط ضريحه فأنا الكفيل لكم برد حياته

ومشكلة كوشنير في فرنسا أنه وضع الرئيس الفرنسي في موقف حرج مع شعبه الذي تساءل ما إذا كان هذا ثمن التوافق مع الولايات المتحدة؟! فالفرنسيون كما هو معروف عنهم لا يتنازلون بسهولة عن مكتسباتهم المبدئية ولا عن تمايزهم. لكن هذا يفتح المجال مجددا أمام تحديد طبيعة العلاقة بين فرنسا والولايات المتحدة حيث أن الفرنسيين فهموا لماذا اختلفوا مع الولايات المتحدة لكنهم لم يفهموا بعد لماذا تصالحوا وعلى حساب من.

تزامن التصريحات الفرنسية المتناقضة حينا والمتناغمة بعض الأحيان كمثيلاتها الصادرة عن أقطاب الإدارة الأمريكية يؤكد حقيقة الوضع الدولي العام ومحاولات الخروج من المآزق التي وضعت إدارة بوش العالم وخاصة أصدقاءها في دوامتها.

الأوساط القريبة من القرار في فرنسا تخشى أن يسير من تبقى في إدارة بوش نحو الشمشونية السياسية، وهذا ليس بعيدا عن خطها الأيديولوجي والعقائدي، وتعتقد هذه الأوساط أن هذا الأمر سيكون كارثيا على فرنسا بالتحديد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

والاحتمال الثاني هو أن تسير إدارة بوش على توريث الأزمات لخلفها وتجبر " الإدارة الفرنسية" لمزيد من التنازلات الاقتصادية والسياسية. مما سيشكل كارثة أخرى لخط المحافظين الجدد في فرنسا.

من هنا يركز الرئيس الفرنسي على بناء حصنه الأوروبي واعتبار هذا الحصن الأوروبي حامية لمصالح فرنسا من تغييرات الطقس في الولايات المتحدة الأمريكية. فالرئيس ساركوزي يرى أن الحماية الأوروبية لفرنسا ضرورية في الحالتين فمن خلال هذا الحصن يستطيع أن يكون مفاوضا قويا على مصالحه في العالم خاصة في الشرق الأوسط حيث تتجمع أعصاب الأزمات الدولية.

ويبدو من باريس أن ساركوزي الذي يمسك وحيدا بخيوط السياسة الخارجية الفرنسية ليس متحمسا جدا للدخول في أي من مغامرات إدارة الرئيس بوش في المنطقة لكنه في الوقت نفسه لا يريد أن يكون بعيدا عن الحدث، وهذه معادلة مرهقة في هذا الوقت الضيق. خاصة أن المساحة التي يمكن أن يلعب بها صغيرة جديدة وكثيفة جدا، إنها بيروت.

ويبدو واضحا من مصادر الرئيس الفرنسي أن كوسرون موفده الأمني والسياسي قد خرج بانطباع غير مشجع إطلاقا لاستمرار الارتهان الفرنسي للمصالح الأمريكية في بيروت وبغداد وفلسطين مفاده أن لا أصدقاء لفرنسا في لبنان وأن أفضل أصدقاء لفرنسا هم الذين تصنفهم الإدارة الأمريكية بالإرهابيين وعملاء سوريا.

كما أن كوسرون بنتيجة جولته الشرق أوسطية خرج بإثباتات تؤكد أن زيارة كوشنير وعلاقات سورية – فرنسية " مذهلة" باتت على قاب قوسين أو أدنى ويجب التمهيد الإعلامي لها، وإقناع الإدارة الأمريكية أن هذا سيكون لصالحها و"مصالحها".

الثابت الأخير الذي خرج به كوشنير والمتعلق بالرئاسة اللبنانية هو أن فرنسا لم تكن يوما أقرب أن تكون شريكا في صنع الرئيس اللبناني وتصنيعه مما هي عليه اليوم حيث أن جميع رؤساء لبنان السابقين تم تصنيعهم بتوافق إقليمي- أنكلوساكسوني، بعد استعراض دقيق لكل الرئاسيات اللبنانية، ما عدا حالة الرئيس الراحل سليمان فرنجية التي كانت حالة استثنائية في لبنان كلفته حربا أهلية على طريقة " صنع في الولايات المتحدة الأمريكية وتم تجميعها في تل أبيب".

كما أن كوسرون خرج بحقيقة كانت جارحة سابقا لكنها باتت بلسما للشارع الفرنسي هي أن حلفاء الرئيس السابق شيراك ليسوا بالضرورة حلفاء فرنسا.

قد تكون بعض القيادات اللبنانية محقة بطلبها السيادة والاستقلال وصادقة في مطلبها لكن بالتأكيد طريق الرذيلة لا تقود إلى الفضيلة.