شكلت سوريا على مدار عقود طويلة، هاجساً استراتيجياً لدى حكام بغداد، الذين كانوا يزعمون أن في تجانس الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، سبباً لقيام الوحدة بين البلدين، ويرون في سوريا مجالاً حيوياً ومنطقة نفوذ سهلة في ظل حالة الضعف الشديد التي كانت تعانيها سوريا في ذلك الوقت.
من هنا فقد عملت النخب السياسية العراقية منذ عهود الاستقلال الأولى، وحتى قبل ذلك بقليل، إلى الدفع بشكل دائم بمشاريع وحدة مع سوريا، تم التعبير عنها: بالتدخل المباشر تارة، أو بدعم أحزاب سياسية وقيادات عسكرية، وصولاً إلى القطيعة النهائية والحرب الباردة بين البلدين.
في المقابل، شكل العراق على الدوام، بالنسبة الى سوريا، هاجساً أمنياً وسياسياً، بل إن هذا التوجه قد أثر في صيرورة السياسة السورية بعموميتها، حيث أصبح هدف السياسة السورية (على ما يقول ديفيد ولش في كتابه سوريا وأميركا)، هو كيفية محافظتها على بقائها القومي، وليس تطورها القومي، في ظل الضغوط الشديدة التي كانت تمارس عليها من العراق وخلفه أميركا وبريطانيا وإسرائيل وذلك في خمسينيات القرن الماضي.
وحتى عندما حكم البلدين نظامان متشابهان (البعث) ظلت العلاقة بينهما أسيرة الهواجس السياسية والأمنية لكليهما، ولم يستطع البلدان، بالرغم من تشكيلهما هلالاً جغرافياً وثقافياً، أن يشكلا وحدة إقليمية سياسية تكون قاعدة لقيام دولة عربية، على ما تفاءل الكثير من دعاة القومية العربية في منتصف القرن الماضي، ويمكن إرجاء أسباب سيادة هذا النمط (التخاصمي) في العلاقات بين البلدين إلى جملة من الأسباب:
1 ـ إن علاقات البلدين كانت على الدوام ضحية الجغرافية السياسية للمنطقة، فالبلدان يشكلان من الناحية الجغرافية، البوابات الشرقية والشمالية للعالم العربي، ومعبره البري لآسيا وأوروبا ناهيك عن توسطهما للمنطقة الأكثر حيوية في العصر الحديث على الصعيد العالمي، وانطلاقاً من هذا الواقع الجغرافي فقد تعرض البلدان لضغوط وإغراءات عديدة من قبل القوى الخارجية ذات المصالح الهامة في المنطقة، الأمر الذي انعكس على علاقات دول المنطقة عموماً، وسوريا والعراق بوجه الخصوص، من ناحية أخرى فإن الموقع الجغرافي المميز للبلدين دفعهما إلى البحث عن دور أكبر في تفاعلاتهما العربية مما أوجد حالة من التنافس والتناحر.
2ـ اختلاف مصادر التهديد، فبالرغم من عداء الأنظمة المتعاقبة في العراق لإسرائيل، إلا أن إيران بقيت الخطر الداهم والمباشر، في الوقت عينه مثلت إسرائيل الخطر الأساسي، والصراع الرئيسي الذي يجب أن توجه كل الطاقات له بالنسبة لسوريا، وقد كان لهذه المسألة دور مؤثر في علاقات البلدين، ففي حين كانت سوريا تعتبر أن الطاقات العربية يجب أن توجه للمعركة مع إسرائيل، كان العراق يدعو العرب إلى دعمه باعتباره البوابة الشرقية في مواجهة العدو التاريخي للأمة العربية المتمثل بالفرس.
3ـ اختلاف الحساسية تجاه نوعية المخاطر التي تهدد الكيانين، فمقابل الحساسية المفرطة للنخب السياسية العراقية من أي نشاط طائفي، أو عرقي، ترى فيه مقدمة لتمزيق العراق لدويلات وهويات وكيانات، على ما يقول غسان سلامة في كتابه (المجتمع والدولة في المشرق العربي)، فإن النخب السياسية السورية كانت دائماً محكومة بعقدة (الصراع) على سوريا وتحولها إلى لقمة سائغة لقوى الشرق والغرب، على حد تعبير باتريك سيل في كتابه الشهير.
في إطار هذه الثوابت تحركت العلاقات السورية العراقية لعقود طويلة فيما يشبه السير بحقل للألغام، وقد تكرست على مدار العقود الماضية صور شتى من العداء والتنافر بين النخب السياسية في البلدين بمختلف تلاوينها ومشاربها، حاملة العقدة الكيانية، وإن كانت في الطرف السوري أكثر وضوحاً، ذلك أن العراق السياسي، وبالنظر لإمكانياته الأكبر (مادياً وعسكرياً وبشرياً) كان مندفعاً على الدوام لتحقيق بعض التغييرات في الجغرافيتين السياسية والطبيعية لسوريا.
الآن وقد تبدلت المعطيات، أو انحرفت قليلاً، مع حدوث تغيير هام تمثل في ضعف الدولة المركزية العراقية، إثر الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003 وبات الوضع في العراق مفتوحاً على احتمالات مستقبلية عدة، فأي معنى لذلك على صعيد العلاقات مع سوريا؟
يتضح من طبيعة المحادثات التي أجراها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في دمشق، وقبله الرئيس جلال طالباني، أن العقدة التاريخية هي التي شكلت الهاجس الأكبر، وهي التي تحكمت في أجندة المفاوضات، ذلك أن المسألة الأمنية ودور سوريا فيها شكلت الشرط الشارط لأي انفتاح عراقي على سوريا، كما أن القيادة السياسية السورية ركزت على ضرورة إعادة بناء المؤسسة الأمنية العراقية والقوات المسلحة على أساس وطني، وإلقاء هذه المهمة على كاهل العراقيين أنفسهم، فيما يبدو وكأنه إعادة إنتاج متجدد للمخاوف الأمنية من الجار العراقي أيضاً، حتى لا يشكل مدخلاً للعبث بالأمن (القومي) السوري. في منطوق العلاقات الدولية، عادة ما تصبح حالة الفراغ، أو على الأقل، الضعف الموجود لدى الجار مبعث إغراء للتدخل والهيمنة، فهل يشكل ضعف العراق تربة خصبة لعلاقات جيدة مع جارته سوريا؟

مصادر
السفير (لبنان)