يحتاج خطاب "عزمي بشارة" إلى التوقف حول نوعية المشروع الذي بدأه سابقا، لكنه يظهر اليوم وفق صورة أوسع، على الأخص أن "الأزمات" لم تعد محصورة في طبيعة العلاقة التي تحكم المواطن الفلسطيني بـ"دولة الاحتلال" بل أيضا بالتفكير الذي يتراجع اليوم على إيقاع السياسي.

عمليا ما قدمه عزمي بشارة أمس في مكتبة الأسد يتجاوز التحديد الصارم "لمسميات القومية" التي اعتدنا على استخدامها في الخطاب السياسي، لأن سياق المحاضرة يقدم مؤشرا على "ضرورة التفكير" بدلا من التعامل بطريقة "الفوات التاريخي"... فالخلاف الفكري سيبقى موجودا، والفكرة القومية "ليست الحل" كما صرح عزمي بشارة معتبرا أن مسألة "الحل" هي في النهاية خطأ منهجي، محاولا إخراج القومية من "الاختناق" الإيديلوجي، وإدخالها في حيز التفكير والحداثة.

ولسنا بصدد استعراض محاضرة الدكتور عزمي بشارة، أو إبداء الاعجاب بمواقفه، لكننا نريد التوقف عند نقاط "المشروع" الفكري بالدرجة الأولى الذي يحالو تقديمه اليوم، فإذا كان الدفاع عن القومية اليوم يبدو وكأنه خروج من ركام السياسة التي أغرقت الفكر، أو ربما حولت "الصراع الفكري" إلى صراع سياسي فقط، فإنه في نفس الوقت مراجعة نقدية لإعادة التأسيس النظري بعد ان توقف النظرية القومية عند حدود مجموعة واحدة من المفكرين، وبقي الإطار الفكري محصورا بإنتاج الخمسينيات والستينيات، بينما تحول في السبعينيات والثمانينات إلى نقد "أسلوبية التفكير"، متجاوزا بذلك إطار التفكير القومي، أو انه اعتبر أن المسألة تم تجاوزها.

ربما يمكننا التحدث عن "الفكر القومي" كـ"أزمة دون مسميات" أو مصطلحات بالتعبير الدقيق، لأن التفكير انقاد وراء التجربة السياسية بدلا من أن ينتج مساحة فكرية واسعة قادرة على التعامل مع تموج السياسة، أو حتى تراجعها... فما حدث كان تراجعا فكريا، وحتى في "الحماس" للتفكير وإعادة صياغة المفاهيم، أو حتى التعامل مع "النهضة" أي كان باستكمال المشروع، بدلا من التعثر بالخيبات السياسية.

وخطورة السياسة هي أنها تستخدم "الاجتثاث" الفكري عندما تمارس "الاجتثاث السياسي"، وهي في نفس الوقت تقود الفمر نحو "اختلاق" مرحلة جديدة دون أن يكمل ما بدأ به... هذا ما حدث عمليا لكل التيارات السياسية التي ظهرت في المنطقة مع بداية الحرب العالمية الأولى، وكانت أحزاب تغيير اجتماعي تحاول خلق "انتماءات" حديثة تتناسب ومفهوم الدولة، بدلا من الانتماء القديم... هذه الأحزاب التي توقفت عند حدود الصراع السياسي، وحاصرت تيارها الفكري بـ"النصوص" أو حتى بخطاب سياسي يحوي "زخم الصراع" بدلا من التعامل مع الأزمات على أنها "أزمات تفكير" بالدرجة الأولى.

حديث عزمي بشارة عن القومية هل يبشر بمرحلة تفكير جديدة؟ ربما ... لكنه في المقابل يحتاج إلى تفاعل متعدد الأجنحة وفقا لاختلاف التفكير بمسألة القومية من جهة، أو حتى بموضوع الانتماء عموما، وهو مشروع يتطلب التعامل مع التأسيس أيضا لما تقوم عليه الأحزاب في المنطقة التي بقيت منذ الخمسينيات أسيرة نصوص مؤسسيها بدلا من أن تتطور، أو تظهر أحزاب جديدة، وفقا لارتقاء مستوى التفكير والتنظير والمدارس العلمية....