لم تفلح جهود كل الحكومات المتعاقبة منذ بزوغ عهد التنمية الريفية في بلدنا في الحيلولة دون هجرة الريفيين إلى المدينة، وتحديدا إلى العاصمة. فانبرت حكومتنا الحالية، حكومة اقتصاد السوق الاجتماعي، إلى إنجاز هذا الاستحقاق بقوة التحديث والتطوير التي تسير عليها، عبر استبدال برامج التنمية الريفية ببرنامج توطين الريفيين. وليست مسألة توطين الريفيين ضمن ريفهم هو عمل حكومتنا الرئيسي في خطتها الخمسية الأخيرة، بل تقوم به ضمن مجموعة إجراءات اقتصادية واجتماعية تكريسا لاقتصاد السوق الاجتماعي.

هذا الاقتصاد، وبحكم طبيعته الشكلانية، يتطلب فرزا أكثر صرامة بين الطبقات الاجتماعية حتى يظهر للعيان. فاقتصاد السوق تفهمه حكومتنا أنه تقليد لشكل المدن الغربية ولقطاعاتها الاستثمارية، لهذا يحتاج كيما يتبدى سوقيا إلى تلميع المدينة وغربلة سكانها عبر الإبقاء على أصحاب المال والجاه وتوابعهم من خدم وعاملين في مؤسساتهم أو في المؤسسات التي تؤمن الخدمات لهم، ومن جهة ثانية خلق ظروف متنوعة لإبعاد وتنفير الفقراء والريفيين غير اللائقين لمشهدية اقتصاد السوق الاجتماعي عن المدينة ـ والمقصود بالمدينة هنا العاصمة دمشق فقط، كون غالبية المدن الأخرى تعتبر على أنها ريف بالنسبة للعاصمة، فمن منا ينظر إلى الرقة أو دير الزور أو جبلة على أنها مدن، أو على أن سكانها مدينيين؟

ولتحقيق هذا الهدف يبدو أن حكومتنا تعمل على خطتين، الأولى رئيسية وعامة تقوم على مبدأ توسيع الفوارق الطبقية عبر تصعيب الحياة المدينية على الناس، معتمدة بذلك أكثر من قرار ووسيلة، من بينها رفع الدعم عن المحروقات، الذي سيتسبب بارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات، مما سيؤدي حتما إلى إفقار شرائح واسعة من الناس ستضطر إلى النأي بنفسها عن المدينة، من دون أن يضر بالشرائح الغنية القليلة. ومن بينها أيضا تفليت الأسعار من دون ربطها بأية نواظم أو عوامل اقتصادية واضحة. إذ على ما يبدو أن الحكومة لا تهتم إلا بسعر صرف الليرة في مقابل الدولار الأميركي حصرا، مهما كانت تكلفة ذلك على المواطنين. فالمواطنون لا يهتمون، على صعيد معيشتهم، بحالة النزاع بين الليرة والدولار، فلم تتحسن أوضاعهم حين سجل الدولار غلبة على الليرة في العام الماضي ولا الآن حين غلبته الليرة وأنزلته تحت خمسينها. فبكلا الطورين كانت أسعار البطاطا والفروج والبطيخ والمواصلات وأجار البيوت وأقساط المدارس… الخ هي المستفيدة في مواجهة السوري الفقير أو من يشبهه.

أما الخطة الثانية ذات الطابع الإجرائي المباشر والسريع، فكانت حين وجدت الحكومة أن قطاعا كبيرا من الريفيين يحتل منطقة البرامكة بداعي كراجات لمواصلاته إلى ريفه "الجميل". فابتدعت طريقة لإقصاء هؤلاء الريفيين عن المدينة بأن نقلت كراجاتهم إلى منطقة السومرية، متذرعة بأسباب وجيهة من ناحية العرقلة والكثافة المرورية التي كانت موجودة في منطقة البرامكة، ومن ناحية استثمار المنطقة بما يليق باقتصادنا السوقي الاجتماعي، الذي يحتاج دوما إلى بيئة استثمارية تجذب المستثمرين والماليين لإقامة مشاريع اقتصاد سوقية اجتماعية تمكّن الحكومة من صفعنا بأرقامها الكبيرة. خاصة وأن البرامكة منطقة مهمة استثماريا، إذ تقع على مرمى نظر المستثمرين القاصدين فندق الفصول الأربعة أو فندق الشام أو الميريديان، بخلاف منطقة كراجات القابون البعيدة عن نظر مستثمريـ"نا"، التي يمكن تأجيل البت بأمر نقلها إلى منطقة معربا أو الضمير في خطوة لاحقة.

صحيح أن الحكومة المبدعة ابتدعت خطوط سير مرتبكة تؤمن نقل الريفيين (ليس القرويين لأن الأمر لا يقتصر على القرى بل على مدن ريفية) من السومرية إلى المدينة، معتبرة أنها لم تسبب الضرر لأحد، وأنها بذلك أمّنت وصول الريفيين إلى أعمالهم ومصالحهم في المدينة، لكن هذا الوضع لن يطول حتى تصاب وسائل وخطوط النقل الجديدة بالعطل والركاكة (وهي على ذلك منذ الآن)، ويصاب على أثرها الريفيون الأعزاء بالتعب والكلل ويغضون النظر عن كثير من مصالحهم المدينية، فيمكثوا في أريافهم تاركين المدينة رغما عن عزتهم للذين يمتلكون الجدارة فيها وفي اقتصادها وسوقها واجتماعها.

إذن، فنحن مقبلون ليس على عام "دمشق عاصمة الثقافة العربية" فقط، وما يتطلبه من إصلاح لحجارة الأرصفة وإنفار للريفيين، كي تتمكن دمشق من أن تقوم بهذا المقام أمام أشقائنا العرب وأصدقائنا الآخرين، بل أرانا مقبلين على خراب اجتماعي فارز يتيح دمشق المدينة للمسؤولين من الوزن الثقيل ولملاك العقارات من ذات الوزن والماليين الثقلاء أيضا، ويصدها أمام الريفيين إلا من كان منهم ذو طموح وعلى سعة مالية تمكّنه من شراء بيت فيها أو منصبٍ رفيع أو ثقيل.