لا يزال "المثلث المأزوم"، العراق، فلسطين، لبنان سجين اللاحسم. ولم يعد خافياً على أحد أن العلاقة بين أزمات المثلث اصبحت أكثر عضوية في ارتباطها وإن تباينت وتيرة تفاقمها. وهذا يعود الى أن حلولها، وحتى حلحلتها، مرهونة بتفاهمات أو تناقضات بين قوى اقليمية ودولية أضعفها نفوذاً دول عربية كان عليها أن تكون أكثر حضوراً - وبالتالي نفوذاً - في دفع مكونات المثلث المأزوم نحو تمكين الجامعة العربية من أن توفر عناصر المناعة واللحمة التي تخرج بدورها الازمات من استمرار تفاقمها وإمعانها في العصيان على استعادة مناعة الجسم السياسي والوطني في كل منها. لعل أخطر الازمات هو التمزق المخيف في الاراضي الفلسطينية وعودة التنابذ العقيم والمقيت بين قيادتي "حماس" و"فتح" في حين يقول تقرير للأمم المتحدة قبل ايام "ان استمرار عمليات الاستيطان، تهدد أي أمل في قيام دولة فلسطينية متناسقة". ثم يشير الى استبعاد الفلسطينيين عن 40 في المئة من الضفة الغربية بسبب المستوطنات والبنى التحتية العسكرية ونظام الطرق الذي يرمي الى تسهيل مواصلات المستوطنين "حماية من الارهاب"! كذلك يشير التقرير الى ان هذه الاجراءات مترابطة لتضمن للمستوطنين مستوى حياتهم. ويؤكد انه على رغم كون المستوطنات خرق للقانون الدولي يعيش 450 ألف مستوطن في القدس الشرقية والضفة الغربية، بالاضافة الى وجود الحائط الفاصل.

نشير الى هذا التقرير لتبيان مدى معاناة الشعب الفلسطيني في تجلياتها المريرة وتكاد الحالة تختبر مزيداً من التردي والتبعثر، في حين ان قيادتي الشعب تبدوان كأنهما ما عادتا معنيتين بمصير من وضعوا الثقة بهما من الشعب الفلسطيني الذي قدم الآلاف والآلاف من الشهداء والضحايا ولا يزال بصموده الرائع مستعدا للمزيد من العطاء والفداء.

الا يستحق هذا الشعب الصامد ان يدفع قيادتي "حماس" و"فتح" الى اعادة الحياة لاتفاق مكة وان يغلبا دماء شعبنا الفلسطيني على "انتصارات" موهومة احداهما على الاخرى؟

وكم كان معيبا ان نشهد في قطاع غزة تظاهرات قام بها انصار "فتح" وظهر فيها ما هو غريب كليا عن تراث فلسطين وقيمها وثقافتها وتاريخها كأن يصرخ المتظاهرون في وجه افراد "القوة التنفيذية" التابعة لـ"حماس" "شيعة شيعة". كما لم يعد مقبولا ان تتحول الصلوات مناسبات لتحريض البعض على البعض الآخر. ومن غير المقبول ان نرى يوما بعد يوم مظاهر "الود الشكلي" بين ايهود اولمرت والرئيس "ابو مازن" على رغم تذمر الرئيس الفلسطيني من عفن وعود اسرائيل التي ترمي الى تخدير الارادة الفلسطينية وبالتالي صرفها عن السعي الى استرجاع البوصلة كما الوحدة الوطنية.

وعلى رغم الغمامة السوداوية التي تخيم على الساحة الفلسطينية فان العودة الى اتفاق مكة فورا تشكل الخطوة الاولى نحو استقامة المعادلة واعادة النظر جذريا في اخطاء وخطايا وسلوكيات لكل من قيادتي "فتح" و"حماس"، ومن ثم يجب العمل على تفعيل الدور العربي والدولي واستعادة القيادة الفلسطينية دورها الرائد في تعبئة قومية للعرب جميعا، وليس حصر الشكوى من اسرائيل في الحكومتين المطبعتين معها، ومن ثم العمل الدؤوب لاعادة فتح آفاق القضية الفلسطينية دوليا وترجمة التجاوب مع شرعية القضية وفق ما ظهر في التقرير الاممي الاخير. وان ندرك ان المؤتمر، او بالاحرى اللقاء الذي دعا اليه الرئيس جورج بوش هو عمليا اجهاض حتمي لفلسطين القضية وتحويلها مشكلة تدار كما تدار حاليا بوعود مخدرة وحسابات خارجة عن محورية فلسطين في استعادة العرب الوعي ووحدة مصيرهم.

•••

أما في ما يتعلق بالعراق فلا يزال الرئيس بوش في حالة انكار للهزيمة والخطأ، مما يفسر التدهور المستمر في احصائيات الرأي العام الاميركي. ولعل التقريرين الاخيرين اللذين اصدرهما مكتب المحاسبات العامة واللجنة الخاصة التي أوكلها الكونغرس الى الجنرال المتقاعد جيمس جونز كانا بمثابة ادانة واضحة للسياسات الاميركية ولتبنيها حكومة نور المالكي. في هذا الصدد يحاول الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني تهميش هذه التقارير ريثما يصدر تقرير قائد القوات الاميركية في العراق الجنرال ديفيد بيترايوس والسفير الاميركي إيان كروكر ويرد على المسائلة الملحاحة للكونغرس والتي كانت من نتائجها السابقة استقالات العديد من المحافظين الجدد والقريبين من الرئيس بوش نفسه.

ولعل المستغرب ان المثلث المأزوم لا يزال يعتقد ان الرئيس بوش يستطيع أن يملي بدون محاسبة، وان انصاره الضعفاء في المنطقة، وبخاصة في المثلث قادرون على ادارة الازمات. فعندما يحاول الضعفاء - عرباً واسرائيليين الاستقواء برئيس تتهاوى شرعيته بدوره نكون أمام استبعاد للحلول ناهيك بالحلحلة، ولذلك سوف نرى في العراق كيف ستكون المساءلة وكيف ستترجم نتائجها جدولة للانسحاب الاميركي وانعكاسها على قدرة ادارة بوش على الاستمرار في حالتي الانكار والاملاء.

•••

ويجيء خطاب الرئيس نبيه بري ليوحي احتمال تهدئة ثم تسوية. واذا ما اعتبرنا ما قاله بدء مسيرة نحو حلحلة ما أو خطوة نحو حل، فإن التكهن بما سيليها يتطلب احاطة أوسع ونفاذاً الى تعقيدات تستولد تعقيدات تسمى "استحقاق الرئاسة" والسؤال هو: هل يستحق الطاقم السياسي الحالي رئيساً يلهم، أو هل هو مهيأ لانتاجه؟ انه سؤال يتطلب مجيباً، وهل من مجيب من لبنان، وليس من خارجه؟

•••

في كل الاحوال المثلث المأزوم في حالة مخاض عسير لكونه يترجح بين الاختناق والانفراج! وعلى المدى الطويل أنا اميل الى التفاؤل وإن مرغماً.