يبدو العراق اليوم أرضاً للتناقضات التي يسودها اللون الأسود فالأسود فالأسود. وأثناء تجوالي في قلب العاصمة بغداد خلال اليومين الماضيين، لم يلُحْ لي من شارات الفأل ما يحمل المرء على الاعتقاد بأنه سوف يكون في وسع العراقيين إبرام عقد اجتماعي يمكنهم من التعايش فيما بينهم بعد كل هذا التطاحن والاحتراب. ولعل المكان الوحيد الذي يبعث على التفاؤل هنا هو إقليم كردستان، حيث لا يتعايش جميع العراقيين مع بعضهم بعضاً. ولك أن تتخيل ماذا سيحدث لو أن إحدى نتائج الغزو الرئيسية للعراق كانت إنشاء جامعة أميركية في العراق؟ بل لك أن تتخيل ماذا سيحدث لو أننا جلبنا إلى العراق فيضاً من الاستثمارات وُظِّف بعضها في تشييد فنادق جديدة ومبان مكتبية وقاعات ومراكز للمؤتمرات، وفي افتتاح مقاه جديدة للإنترنت، فضلاً عن توظيفها في بناء مطارين دوليين جديدين ومراكز تسوق كبيرة في بغداد؟ وعلى خيالك أن يمتد ليتصور ما سيحدث لو أننا مهدنا الطريق لحدوث انفجار صحفي إعلامي. ولك أن تتخيل ما سيحدث لو أننا أنشأنا جزيرة كاملة من الحدائق والمتنزهات العامة، وحيث تتمكن النساء العراقيات من السير سافرات غير محجبات، وحيث لا يقتل جندي أميركي واحد، ويتمتع الأميركيون بشعبية كبيرة، بينما يمارس الإسلام في أكثر صوره تسامحاً وانفتاحاً؟ ولك أن تتخيل وتتخيل وتتخيل... كفاك خيالاً، لأن كل هذا متوفر هنا في إقليم كردستان شمالي العراق، حيث يقطن حوالي أربعة ملايين كردي. وقد رأيت كل الذي دعوتكم إلى تخيُّله رؤية العين في مدينتي إربيل والسليمانية. لكن المشكلة أن فريق الرئيس بوش أخفى عنا هذه الحقائق ولم يقلها لأحد البتة. ومع ذلك فالديمقراطية ليست صفة تنطبق على إقليم كردستان. فهناك برلمان وانتخابات نزيهة حرة، إلا أن الجهاز التنفيذي الحكومي فيه لا يزال أقرب إلى فردية عروض "سوبرانوز" الكوميدية التي يقدمها ديفيد جيز، منها إلى جماعية عروض "ويست وينج" للدراما السياسية التي تقدمها شبكة "إن بي سي"، ثم إنه أقرب إلى سنغافورة منه إلى سويسرا، بسبب انقسامه بين معسكري طالباني وبارزاني. ويتمتع الإقليم كذلك بصحافة مزدهرة شريطة ألا تمس القيادة السياسية بشيء. على أنه يمكن القول إن الإقليم ماض باتجاه التحول الديمقراطي، وإنه قطع شوطاً مقدراً في بناء مؤسسات مجتمعه المدني، وتأهيل الطبقات الوسطى التي ستزداد الحاجة إليها عند تطبيق الديمقراطية الحقة. هذا ويتوقع أن تفتتح الجامعة الأميركية الجديدة في السابع عشر من شهر أكتوبر المقبل في مدينة السليمانية. وقد حدثني "أوين كارجول" أن مجلس إدارة الجامعة يرغب في أن تكون هناك ثلاثة أفرع للجامعة أحدها في كردستان، والثاني في البصرة، والثالث في العاصمة بغداد. لكن المشكلة أن إقليم كردستان هو المنطقة العراقية الوحيدة التي يمكن أن تفتتح فيها الجامعة في الوقت الحالي.

ورغم أن العراق لا يزال كارثياً من زوايا عدة، فإن الغزو العراقي تمخض عن ميلاد شيء باهر هنا في إقليم كردستان على أقل تقدير. أو لنتحر الدقة ونقل إننا مهَّدنا الطريق وفتحنا الأبواب كي يستكمل المواطنون الأكراد باقي المشوار. هنا في هذا الجزء من العراق تستطيع أميركا أن تسمع بعض كلمات الشكر والثناء على تمكينها لمواطني الإقليم من تحرير وطنهم من قبضة نظام صدام حسين، تحت غطاء جوي وفرته لهم الولايات المتحدة في عقد التسعينات، ثم على إطاحتها بالنظام نفسه لاحقاً، وهو ما مهّد الطريق أمام النهضة التي يشهدها الإقليم. وعلى حد قول "نشيرفان برازاني"، رئيس وزراء حكومة كردستان الإقليمية، فقد كانت عينا صدام حسين دائماً على الإقليم. ولذلك فقد انفتحت أمامنا شرفة للأمل والتطلع إلى المستقبل، ما إن أطيح به. وهذا ما حفز أصحاب الدُّخول المحدودة من مواطني الإقليم على استثمار أموالهم أو في شراء السيارات أو إنشاء مشروعات استثمارية صغيرة، طالما أن في وسعهم النظر إلى المستقبل. فنحن نشكر أميركا ونحبها... إلا أن هذا الحب لا يعبر عنه إلا من طرف واحد فحسب هو نحن. أما الطالب "حشير عمر"، البالغ من العمر 23 عاماً، فقال لي إن نظام صدام دفن والده حياً عندما كان هو طفلاً لا يزيد عمره على ثلاث سنوات. ولذلك فهو يتقدم بالشكر شخصياً للرئيس جورج بوش على تحريرهم من قبضة صدام. ومضى حشير قائلاً: "ربما يكون بوش قد اتخذ بعض القرارات السيئة، إلا أن قرار تحرير العراق كان أفضل ما فعله على الإطلاق".

ولما كان هذا هو واقعَ الحال والمشاعر إزاء واشنطن، فلماذا يخفي عنا فريق بوش قصة أكبر إنجازات غزوه التي تحققت هنا في إقليم كردستان؟ والإجابة أن هذا الفريق يبدي تخوفاً من انفصال الأكراد. لكن الحقيقة أن الأكراد لا يعتزمون الانفصال عن العراق، لكون الحدود العراقية توفر لهم حماية إقليمية ضد هجمات أو تدخلات ربما يتعرضون لها سواء من تركيا أو إيران أو سوريا. وعليه فالواجب أن يكون هذا الإقليم الكردي المستقل ذاتياً، نموذجاً يحتذى به في إعادة بناء الأجزاء الأخرى من العراق. لكن هل لدى الرئيس بوش ووزيرة خارجيته أي فكرة أفضل من هذه، بل هل لديهما أدنى فكرة أياً كانت؟ الشاهد أننا ننفذ الآن استراتيجية زيادة عدد القوات، بلا هدف ولا مغزى. وفي رأيي الشخصي أن الأمل الوحيد أمام العراق هو تقسيمه فيدرالياً إلى ثلاثة أجزاء؛ أحدها للأكراد والثاني للسُّنة والثالث للشيعة، على أن تؤدي فيه العاصمة بغداد دور ماكينة الصراف الآلي التي تضخ الأموال لهذه الأقاليم الثلاثة. وهذا هو ما يجب علينا وضعه على الطاولة ومناقشته الآن.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)