غالباً ما تطفأ الأضواء حوالي الساعة الرابعة فجراً في مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود براك في مبنى الوزارة بمنطقة " هكرياه " بتل أبيب، في الآونة الأخيرة. فبراك الذي يقول أنه يعمل 19 ساعة في اليوم، مشغول وطاقمه في الآونة الأخيرة بدراسة وثيقة توصف بأنها " بالغة الخطورة "، أعدتها خمس طواقم عمل من وزارة الدفاع وشعبة الاستخبارات العسكرية وقسم التخطيط في الجيش ومجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية، وتشكلت بغرض الأجابة على السؤال الآتي: كيف سيؤثر الإنسحاب الأمريكي من العراق على المصالح الإستراتيجية لإسرائيل. وسائل الإعلام الإسرائيلية تصور الجلبة في مكتب براك وأروقة المؤسسات المسؤولة عن اعداد الوثيقة، مشيرة الى أعقاب السجائر الكثيرة التي يتركها المحللون والخبراء في هذه المؤسسات بعد يوم عمل مضني. الوثيقة التي أشارت إليها بعض وسائل الاعلام الاسرائيلية في نهاية الاسبوع الماضي، ومن ضمنها صحيفة " يديعوت أحرنوت " تتنبأ أن الإنسحاب الأمريكي سينتج عنه " شرق أوسط جديد "، بكل معنى الكلمة، وبكل تأكيد أن النسخة الجديدة للشرق الأوسط ستكون أسوأ نسخة توقعتها إسرائيل في يوم من الأيام. الطواقم التي شرعت في العمل منذ ثلاثة أشهر بسرية تامة تجزم أن الإنسحاب سيسفر عن " تسونامي " سيضرب المنطقة وسيسفر عن تغييرات درامتيكية في الواقع الجيوسياسي والإستراتيجي في المنطقة، سيتأثر منها سلباً جميع حلفاء أمريكا في المنطقة، ولكن إسرائيل ستكون أكثر الأطراف تضرراً. التاريخ الذي تحدده الوثيقة لبدء التحركات الفعلية لإنسحاب القوات الأمريكية من العراق هو شهر ايلول الجاري، حيث سيقوم مجلسي الكونغرس بحملة مساءلات لأقطاب الإدارة الأمريكية في أعقاب التقرير الذي سيقدمه قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال باتروس. هذه المداولات- كما تتوقع الصحيفة - ستهز الإدارة الأمريكية وستجعل الرئيس بوش في بؤرة الجدل الشعبي، الى جانب أنها ستعمل على مزيد من التفسخ في العلاقات بين ادارة بوش والحكومة العراقية الحالية.

الوثيقة تجزم أن الخطوة التي تدلل على أن إدارة بوش قد حسمت أمرها وأنه في نيتها الإنسحاب مبكراً من العراق، هو قرارها برفع المساعدات الأمريكية العسكرية لإسرائيل بشكل كبير، بحيث تصل في غضون عقد من الزمان الى ثلاثين مليار دولار، بواقع ثلاثة مليار كل عام، وصفقة السلاح العملاقة التي وقعتها واشنطن مع السعودية والتي وصلت قيمتها الى 20 مليار دولار. واعتبرت الوثيقة أن رفع قيمة المساعدات العسكرية لإسرائيل وصفقة السلاح مع السعودية جاء لإرضاء الدولتين في اعقاب القرار المتوقع بالإنسحاب من العراق، ومنحهما الإحساس بأنهما ستكونان قادرتان على مواجهة تبعات الإنسحاب من العراق. حيث أنه – حسب الوثيقة – فأن إسرائيل والسعودية ستكونان من أكثر الأطراف تضرراً من قرار أمريكي بالإنسحاب من العراق. الوثيقة تشير الى أن السعوديين ادركوا ما ترمي إليه الإدارة الأمريكية، الأمر الذي دفع ملك السعودية عبد الله الى الامتناع عن زيارة واشنطن، وبدلاً من ذلك قام السعوديون بتعزيز حوارهم مع الإيرانيين بشكل تظاهري احتجاجاً على النوايا الأمريكية.

وتشير الوثيقة الى ثلاثة من مكامن الخطر ستنجم عن الإنسحاب من العراق، وتتمثل في الآتي:

أولاً :الإنسحاب الأمريكي من العراق سينظر إليه في العالمين العربي والإسلامي كهزيمة مروعة لأمريكا وسيؤدي بشكل فوري الى زيادة هائلة في طاقة الحركات الإسلامية الجهادية، حيث ستعمل هذه الحركات على زعزعة أنظمة الحكم العربية المعتدلة في المنطقة، الى جانب تعزيز الأنظمة التي تناصب أمريكا العداء. وتعتبر الوثيقة أن أكبر ضرر إستراتيجي سيهدد إسرائيل سيكون المس باستقرار نظم الحكم في الأردن، الذي تصفه الوثيقة بأنه " أهم ذخر إستراتيجي لإسرائيل في المنطقة لأنه يمثل المنطقة الفاصلة بين إسرائيل والهلال الشيعي الذي سيتبلور بعد الإنسحاب من العراق، الى جانب موقف النظام الأردني الصارم ضد الحركات الإسلامية، إلى جانب الدور الأمني الهائل وبالغ الأهمية والمتمثل في منع عمليات التسلل الى اسرائيل عبر الحدود الأطول الذي تربطهالأردن بإسرائيل. وتتوقع الوثيقة أن يؤدي الإنسحاب الأمريكي من العراق الى تحويل العراق الى نقطة انطلاق للعمل ضد الأردن، الى جانب تشجيع الحركات المناوئة للنظام للعمل من داخل الأردن، الى جانب أن النظام السوري سيسمح بالعمل ضد عمان من أراضيه. وواضح تماماً أن سقوط النظام الأردني يعني تحويل هذا البلد الى ساحة فعل ضد إسرائيل، ويعيد إسرائيل الى السنوات الأوائل لوجودها. والتهديد الذي يتعرض له الأردن يكمن أيضاً في وجود حوالي 800 الف لاجئ عراقي.وتوصي الوثيقة بالبدء بدعم النظام في الاردن عن طريق في تجنيد الدعم الدولي والامريكي لحل مشكلات المياه، ومن خلال منح اجهزته الأمنية التكنولوجيا العسكرية قدر الممكن.

ثانياً: تحذر الوثيقة من أن الإنسحاب سيؤدي الى مضاعفة الدافعية لدى حركات المقاومة الفلسطينية وحزب الله لضرب إسرائيل، في نفس الوقت الذي سيعود العراق ليكون نقطة انطلاق لتنفيذ عمليات اطلاق صواريخ بإتجاه إسرائيل. وتنوه الوثيقة الى أن بعض الأطراف قد تكون معنية بحصول عناصر الحركات الجهادية على صواريخ طويلة المدى لكي يكون بوسعهم اطلاقها على إسرائيل من غرب العراق، حتى لو لم يتأثر النظام الأردني في بادئ الأمر.

ثالثاً: ترى الوثيقة أن الإنسحاب من العراق سيحرر إيران من الضغوط الممارسة عليها حالياً، وسيسمح لها بتطوير برنامجها النووي وصولاً الى انتاج القنبلة النووية، في حين أن سوريا ستنجو من الحملة الأمريكية الهادفة الى تضييق الخناق على نظام الحكم فيها. وتحدد الوثيقة العام 2009 لاستكمال سوريا عملية تحديث جيشها، وهو نفس العام الذي يغادر فيه بوش البيت الأبيض، وتستبدل فيه السياسة الأمريكية تجاه العراق ويبدأ الانسحاب من هناك.

لكن من الأهمية بمكان التنويه هنا الى هذه الوثيقة مثلت آراء معظم الخبراء الذين شاركوا في صياغتها وتقديمها للمستوى السياسي في تل أبيب، لكن هناك بعض الخبراء الذين يمثلون أقلية في طواقم العمل التي أعدت الوثيقة قد أشاروا الى أن الإنسحاب الأمريكي قد يشتمل على تطور ايجابي واحد بالنسبة لإسرائيل. ويشير هؤلاء الى حقيقة أن قادة الجيش الأمريكي في العراق هم الذين يرفضون بشدة قيام الإدارة الأمريكية بمهاجمة إيران وتدمير برنامجها النووي، على اعتبار أن إيران سترد على أي عملية من هذا القبيل بشن عمليات انتقامية ضد القوات الأمريكية في العراق. ويرى هؤلاء الخبراء أن الإنسحاب من العراق قد يزيل عقبة كأداء أمام تحرك أمريكي عسكري محتمل ضد إيران.

والحقيقة أنه حتى قبل الكشف عن هذه الوثيقة، فأن الكثير من الخبراء الإستراتيجيين في إسرائيل قد دعوا صناع القرار في تل أبيب الى وقف الرهان على الوجود الأمريكي في العراق، وشددوا على أن إسرائيل مطالبة بالمبادرة بالتحرك لوحدها في مواجهة المشروع النووي الإيراني. عوزي عراد رئيس قسم الأبحاث في جهاز " الموساد " سابقاً، والرئيس الحالي لمركز " هرتسليا متعدد الاتجاهات " قال أن إسرائيل مطالبة بإستثمار كل الطاقات لإحباط المشروع النووي الإيراني ولو بثمن تجاوز واشنطن والتحرك بشكل منفرد ضد البرنامج النووي الإيراني. الجنرال إفرايم سنيه النائب السابق لوزير الدفاع الإسرائيلي يرى أن كل المؤشرات تدلل على أن أمريكا في طريقها للخروج من العراق قبل معالجة التهديد النووي الإيراني. وطالب سنيه حكومة إسرائيل بعدم انتظار الأمريكيين وإتخاذ كل الخطوات الكفيلة بإحباط المشروع النووي الايراني. " لا يحتاج الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أن يستخدم السلاح النووي ضدنا، ولا حتى أن يهدد بإستخدامه، فمعظم الجمهور الإسرائيلي سيهاجر من إسرائيل في حال عرف أن إيران قد طورت سلاحاً نووياً "، قال للإذاعة الإسرائيلية باللغة العبرية. لكن هناك من الساسة في إسرائيل من يرى أن إنسحاب أمريكا جيد لإسرائيل حتى لو كان ذلك يعني عدم تحرك واشنطن للعمل عسكرياً ضد البرنامج النووي الإيراني. شلومو افنيري المدير السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية حذر صناع القرار من الظهور بمظهر المتحمس للبقاء الأمريكي في العراق. ويضيف افنيري " بالنسبة للأمريكيين في العراق انتهت القصة، وليس أمامهم إلا الفشل مهما حاولوا اعطاء الإنطباع أن الأمور تتجه نحو الأفضل، وهم سينسحبون من العراق عاجلاً أم آجلاً، ومن الأفضل أن ينسحبوا في أسرع وقت، لأنه كلما طال وجودهم هناك، كلما تضررت مكانة الولايات المتحدة الدولية ". ويعتبر أفنيري أن المس بمكانة أمريكا الدولية ستكون له انعكاسات خطيرة على إسرائيل، مشدداً على أن هيبة امريكا ومكانتها الدولية من أهم ركائز القوة بالنسبة لإسرائيل. ويحذر الكاتب الإسرائيلي يعكوف احمئير من خطورة أن تظهر إسرائيل اصدقاؤها اليهود في امريكا – وكأنها تمثل رأس الحربة في محاولة تحويل المزيد من القوات الأمريكية للعراق ومحاولة البحث هناك عن حل عبر استخدام القوة رغم أن كل الدلائل تشير الى أن أمريكا في طريقها الى فشل مروع. ويضيف أن مكانة إسرائيل في أمريكا قد تضرت كثيراً لأن هناك من يقول أن الولايات المتحدة قد خرجت للحرب في العراق دفاعا عن اسرائيل، منوهاً الى أنه من المحظور على اسرائيل أن تظهر الأمور و" كأن البقاء الدموي وغير المجدي للأمريكيين في العراق يمثل مصلحة لإسرائيل ".