10/09/2007

نحن إزاء عودة صاخبة للكونغرس الأمريكي من إجازته الصيفية، الديمقراطيون يشحذون سيوفهم والجمهوريون يعدون تروسهم، والإدارة تستعد للمواجهة وهي في أضعف حالاتها. لعلها ستكون العودة إلى العمل التي لاشك بأنها ستكون الأكثر لغطاً، أو الأشد احتداماً من حيث تصاعد حمى النقاشات وارتفاع منسوب وتيرة الجدل الذي، وإن لم ينقطع إبان الإجازة، فلسوف تثير أواره وتلهب نيرانه التي لم تنطفئ إبانها جملة من التقارير الصابّة الزيت عليها، باعتبارها تتابع مسار تعثر المشروع الأمريكي في العراق، وتعالج دواهي الأزمة المستعصية والمتفاقمة التي يواجهها الاحتلال الأمريكي هناك... إنها بعض من أيام حساب ستجد إدارة الرئيس بوش نفسها في مواجهتها...

سيد هذه التقارير، من حيث الأهمية المفترض أنها سوف تترتب عليه، هو الذي لم يقدم حتى الآن، أو لم يفصح عن بعض ما سيجيء به أو يسرّب قليل من المتوقع فيه. إنه تقرير بيتراوس – كروكر، أو تقرير الجنرال القائد الأعلى لجيوش الاحتلال في العراق والسفير الأمريكي أو المندوب السامي الأمريكي في العراق المحتل. هذا التقرير سبقه إلى التداول الإعلامي تقرير "مكتب محاسبة الحكومة" الموصوف بالسلبي جداً، وبعد يوم منه لحقه تقرير آخر للجنة مستقلة مكلَّفة من الكونغرس وعديدها عشرون عضواً، يرأسها الجنرال المتقاعد جيمس جونز، الذي يدعو فيما يدعو فيه إلى حل الشرطة العراقية العاملة تحت الاحتلال وإعادة بنائها من جديد!

إذن نحن قريباً إزاء جدل أمريكي تحت قبة الكونغرس يتمحور حول كيفية الخروج من الورطة العراقية وكيفية توخي سبل البقاء في العراق. وعليه، سارع الرئيس جورج بوش الابن، كخطوة استباقية أو بعض من محاولة اعتراضية على ما ينتظر إدارته في الكونغرس، إلى التوجه لميدان الأزمة ساحباً معه أركان إدارته، وزير الحرب، ومستشار الأمن القومي، ووزيرة الخارجية، ليلتقي هناك بجنرالاته في أكبر قاعدة جوية في العراق المحتل، قاعدة الأسد في الأنبار، القاعدة المرشحة كواحدة من قواعد تعد لأن تغدو مرتكزات للبقاء العسكري الأمريكي الدائم في العراق بعد "الانسحاب" المفترض منه..!

كان ما فعله الرئيس الأمريكي عبر هذه الزيارة الخاطفة هو الأشبه بعقد مجلس حرب في ساح المعركة... لعل هذا المتوقع من زوابع ستحور وتدور بين جدران الكونغرس هذا الأسبوع، البعض يأمل أن تتحول إلى أعاصير تعصف فتكنس مزاعم الإدارة، وتذهب بما تبقى من نزر مبرراتها الاستباقية المتساقطة، أو تعريها من بقايا ما زعمته من لبوس أخلاقي ادعته لحروبها، سيغذيه ما بدى وكأنما هو إطلاق البريطانيين لرصاصة الرحمة على ما يدعى تحالف غزو العراق، أو تشييعهم لهذا التحالف إلى مثواه الأخير بمغادرتهم البصرة والتمركز في مطارها، في خطوة كأنما هي بداية هروب قبل فوات الآوان بجلدهم ليبقى الأمريكان وحدهم في المستنقع العراقي، وسيجدون وهم يغوصون في أوحاله أن عليهم تعويض الفراغ الناجم عن انسحاب المنسحبين وحماية خطوط إمداداتهم جنوباً. ويزيد الطين بلّة تعثر ما تدعى بالمسيرة السياسية في عراق ما بعد الاحتلال، وازدياد كلفة الاحتلال البشرية والمادية والمعنوية والأخلاقية بازدياد فعالية المقاومة فيه. هذه الحال الأمريكية في العراق أطلقت سيلاً من التوقعات المغالى فيها، منها ما هو بشأن توقع اقتراب موعد رحيل الاحتلال، أو على الأقل، اقتراب أوان الإعلان عن موعد بدء الانسحاب، وكل ما يثار على هامش اللحظة المأزومة التي يعيشها الأمريكان هناك... زاد من مثل هذه التوقعات، كلام يصدر عن بوش لأول مرة، إبان زيارته المفاجئة الأشبه بالتسلل إلى الأنبار، عن احتمال تقليص لعدد القوات المحتلة للعراق مستقبلاً، وتلميحات تبعتها من قبل الجنرال بتراوس عن احتمال بدء لانسحاب ما بحلول ربيع العام القادم... وقبل هذه وتلك فشل حروب بوش الكونية على عدوه المفضل الإرهاب، وتدحرج المزيد من رؤوس المحافظين الجدد ودعاة الحروب الاستباقية في مسلسل فضائح يبدو أنه سوف يتواصل برسم الاستعدادات للاستحقاق الانتخابي الرئاسي الأمريكي القادم.

ما تقدم، يقول لنا: نعم، المشروع الأمريكي في العراق اجتاز مرحلة التعثر إلى حيث مكابدة الفشل المؤكد، لكن اقتراب أوان إعلان الهزيمة المنتظرة، وما يترتب عليها من انكفاء فانسحاب، أو ما يدور الحديث عنه اليوم، تحول دونه جملة من الموانع ذات العلاقة الموضوعية المرتبطة بطبيعة الإدارة الأمريكية، وهي أيضاً، ما يمكن سحبها على دولة تعتريها لوثة النزوع الإمبراطوري للقوة الأعظم والقطب الأوحد في هذه الحقبة الكونية، بغض النظر عن الفوارق بين هذه الإدارة التي تصل إليها السلطة أو تلك فيها، أي الإدارات المتعاقبة التي من شأنها أن تتبدل وتتغير لتبقى ثوابت المصالح والسياسات التي تترتب عليها وتخدمها، ما بقي هذا النزوع والتفرد بالقوة والقطبية.

في استراليا التي قصدها بوش بعيد مغادرته للأنبار قال، أنه يعارض "الجداول الزمنية المصطنعة، ومهل الانسحاب". وقال حليفه الأسترالي جون هوارد في لفتة تعاضدية، أن قوات بلاده "ستبقى على مستوى وجودها الحالي في العراق، ولن يخضع وجودها لجدول زمني بل للشروط على الأرض". أما الجنرال بتراوس الذي ينتظر الأمريكان والإدارة والعالم تقريره فيقول: أن وجود قوات الاحتلال في العراق ضروري لمواصلة العمليات ضد ما دعاه "التمرد" والتي هي عنده "تاريخياً" قد تستمر "على الأقل تسعة أو عشرة أعوام"!

إذن، ما الذي أخذ بوش فجأةً إلى الأنبار؟

قلنا أنها خطوة استباقية ومحاولة التفاف على تقرير بتراوس – كروكر والتأثير عليه، و الأمر ذاته بالنسبة لمحاولة التأثير على الكونغرس المتحفز للجدل والتخفيف من غلوائه... وفيها أيضاً خطوة مناسبة للتصوير المسرحي المطلوب لمزاعم الإدارة بان الأنبار غدت أكثر أمناً بفعل استمالة بعض شيوخ العشائر فيها... ومجلس حرب خاسرة يعقد في ساحتها الدامية.

ذهب ليقول لنا، أن بوش لازال هو بوش، إلى أن يرحل عن البيت الأبيض، وأن استراتيجيته العراقية لم ولن تتبدل ما دام قاطناً للبيت الأبيض... وانه سوف يرحل من هناك تاركاً لمن يخلفه وزر خيار الإقرار بالهزيمة والإقدام بدلاً عنه على ما سيترتب عليها.

إذن ماذا عن البريطانيين؟!

قالها براون المُتفق على أنه المختلف عن بلير: إنه انسحاب بريطاني عسكري لا سياسي، ولم يكن من الممكن الإقدام عليه قبل التنسيق مع الحليف الاستراتيجي الدائم، هذا الذي تحالفنا الاستراتيجي معه لا يمس!

إذن هو هروب بريطاني من البصرة مدروس ومتفق عليه مع واشنطن... هل هو تعبير عن هزيمة؟ نعم هو هزيمة، إن هذا ما يقوله البريطانيون أنفسهم، إنما وإن كانت كذلك، فهي لا تعني تبدلاً في السياسات ولا تمس الاستهدافات التي قام عليها ومن أجلها الغزو، أو هي لا تفك عرى تحالف الشريكين فيه!

إنها إعادة انتشار بريطانية، أو خروج من المدينة، التي من المطلوب تهيئتها لاحتراب داخل الطائفة الواحدة، أو بين متنفذيها، أو صراعات لوبيات تهريب النفط، في ظل الفراغ الأمني المترتب على هذا الخروج منها، لكن إلى مطارها... أو كما يقول المنسحبون: مراقبة الأمن دون تحمل مسؤوليته!!!

إذن، من التعثر إلى الفشل، لكن دون الاعتراف بالهزيمة، هذا الذي سوف يثور لأجله الجدل طويلاً داخل الكونغرس وخارجه... الجدل الهادف لاستبدال هذا الاعتراف، باجتهادات تتمحور حول كيفية الخروج من الورطة العراقية، لكن بالتوازي مع تلمس كيفية توخي سبل البقاء في العراق... الأمر الذي عناه هبوط بوش مع أركان إدارته في الأنبار، أو هذا الإنزال الاستباقي في أكبر قاعدة جوية في العراق... القاعدة المرشحة لأن تكون واحدة من القواعد الموزعة من جنوب العراق إلى شماله مروراً بوسطه، تلك التي سيتم الهروب إليها، أو الانسحاب التكتيكي إلى إقلاعها، لضمان البقاء الاستراتيجي الأمريكي الآمن والدائم هناك!