خالد الاختيار

(باوتشو) طفل مقدام يرتدي بسرعة أي عمر يشاؤه له من يتقلد اسمه ودوره من بين المؤدين الأطفال, وهو البطل الشغوف بضيعته الصغيرة على الخشبة, وإنّ كانت الظروف اضطرته عاجلا إلى مغادرتها, فليس سوى للبحث عن شمس النهار التي اختطفتها العفاريت ذات يوم وأخفتها عن عيون أهل قريته وحقولهم.

وعبر 40 دقيقة هي مدة العرض ينطلق (باوتشو) من دون تردد في مهمته الخطيرة, قبل أن يتمكن في النهاية من استرداد ضياء الفجر المفقود, إنما بعد سلسلة من المغامرات كان مسرحها تلك الفسحة التي وفرها (تياترو) -مي سكاف على مدى ستة أيام, فضاء أوسع من مجرد عدد الكراسي التي من الممكن صفها بالطول هنا أو بالعرض هناك أمام الجمهور المحتشد.

وتحت قبة سماوية دمشقية يقترحها تاريخ المكان؛ راح أولئك الأطفال الأحد عشر يتقافزون تارة ويهمدون أخرى, يغنون ويتباكون, يمثلون ويلعبون, وبدلا من أن تدفع ارتجالاتهم ومشاكساتهم القيمين على العرض إلى (النرفزة) والتعصيب كما هو الحال مع الصورة النمطية لـ(الهم) المسرحي المحلي, كان ثنائي الإخراج ميسون ومحمود يشاركان مجموعتهما من خلف الكواليس الضحك واللهو, قبل أن ينحنيا في الختام ببعض الجدية أمام تصفيق الجمهور.

(البحث عن الشمس) في أصل الحكاية, قصة من التراث الصيني, تصنف ضمن الميثيولوجيا الانسانية القديمة, الغرض منها تفسير بعض الظواهر الطبيعية التي تحكم العالم المحيط في قالب حكائي وقصصي.

أمّا (مشروع) المسرحية نفسها -إن صح التعبير- فيعود لأشهرعدة, وفكرته أتت في حينه كتطور موضوعي لدورة الدراما التي نظمها (تياترو لفنون الأداء) لمجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم بين (7 إلى 14) عاما, من دون أن تهدف -في البدايات المبكرة أقله-إلى إنجاز عرض مسرحي كامل للأطفال, بقدر ما كانت مهمتها منصبة على تعليم هؤلاء الصغار مجموعة من التقنيات الابداعية المرتبطة بتخصيب الخيال لدى الأطفال, وفتح أفق بصري أرحب أمامهم, وذلك وفق ما أطلعنا عليه محمود حسن أحد مخرجي العرض "مع ميسون عمران" والذي استهل بالقول:( لقد اعتاد الأطفال سماع الحكايا, بيد أن ما حاولنا القيام به هنا هو أن نحث الطفل نفسه على قص هذه الحكاية وروايتها بصوته, وأن نضع بين يديه أدوات التأثير التي تساعده على تنمية قدراته والانتقال بها من التلقي إلى الفعل).

وعن الطريقة التي اعتمدها المخرجان في العمل على تحقيق هذه الغاية يقول حسن:(حاولنا كسر التقليد في طريقة توجهنا إلى الأطفال من خلال الابتعاد عن المقولا ت الجاهزة والتلقين والـ"لا" لعب, وأنا هنا لا أريد نفي مجموعة تجارب سبق وأنتجت في سوريا في مسرح الطفل, لكن أغلب تلك التجارب التي رأيتها أو قرأت عنها تنحو باتجاه التلقين والمعلومة الجاهزة أكثر من اللعب, عدا أنها تصنف ضمن مسرح الكبار للصغار, بشكل يفوق كونها مسرح أطفال للأطفال, حيث تكاد منظمة الطلائع تكون الوحيدة التي تعمل على هذه الفكرة محليا), ويضيف:(الأطفال في عملنا كانوا هم من يصنعون مسرحهم, ابتداء من الاعداد للنص وتشكيل السيناريو, وصولا إلى انتقاء الاكسسوارات والأزياء).

أمّا عن مدى التفاعل بين المشرفين الكبار على العرض وبين مجموعة الأطفال المشاركة ضمن استراتيجية العمل هذه يقول حسن:( أنا شخصيا كنت أعمل على مسألة الأداء مع هؤلاء الصغار, ولاحظت أن التعامل مع الطفل من منطلق من يفوقه معرفة أمر يفقد المدرب التواصل مع هذا الطفل, لهذا فقد بدأنا مشروعنا بالتوجه لخلق ندية مع الأطفال من حولنا, وعمدنا إلى مناقشة الأفكار المعروضة معهم, وسعينا إلى أن نقترح عليهم ونسمع بالمقابل اقتراحاتهم, والتي من الممكن أن تنفذ ويؤخذ بها عمليا في العرض. وحتى هذه الاقتراحات التي أتت من قبلنا, فقد حرصنا على تقديمها بطريقة اللعب, وإن كانت على المستوى الفكري للمسائل).

ويؤكد حسن نجاعة هذه التجربة, التي تمكنت في بعدها العملي من حل بعض الاستعصاءات فيما يمس تقنية العرض نفسه فيقول:(لقد كان لدينا ثمة مشاهد في القصة وجدنا أنه من العسير تحريكها بصريا وقمنا بتجاوز هذه العقبة من خلال خيال الأطفال أنفسهم ولعبهم, كمشهد "قرية الشياطين" الذي كان من المستحيل دون امكانات مادية هائلة أن يعرض يالطريقة التي جاء فيها في القصة الأصلية, والأطفال هم من أوجدوه بصيغته النهائية التي ظهر بها أمام الجمهور وليس المدربون).

ويتابع بحماس مشيدا بتفاعل الأطفال:(النص الأصلي محدد تراثيا بالفلكلور الصيني, والتداعيات الاجتماعية والبيئية المحلية الصينية, لكن الأطفال تمكنوا بخيالهم من "جلب" هذه الحكاية إلى حياتهم وواقعهم, وأعادوا انتاجها بما يتوافق مع بيئتهم ومحيطهم, مع وجود إشراف حذر من قبلنا بالطبع, وذلك للحفاظ على الإطار العام للحكاية كي لايتلاشى نتيجة شطط هذا الخيال في بعض الأحيان وابتعاده عن جوهر ما يحاول النص الأصلي قوله بالأساس).

وحيث أن لكل نظرية في العمل تحدياتها الخاصة, حدثنا محمود حسن عن أبرز ما اعترض سبيل مجموعته من عقبات أو عوائق أثناء فترة الاعداد أو العرض فقال:( أعتقد أن جواب سؤالك يكمن في فقدان ذلك الخيط الذي يفصل بين الطفل من جهة, والمدرب الذي يشرف على عمله من جهة أخرى, وهنا ظهرت أبرز مضاعفات هذه الطريقة في التعاطي مع العمل, مما أفقدنا أحيانا السيطرة على الأولاد, وخاصة بعد أن أصبحنا أصدقاء!! إنما أصدقاء على حساب المهنية في التعامل, الأمر الذي أحوجنا إلى استحضار مؤثرات خارجية أخرى إضافية لضبط الإيقاع مجددا, بعد أن أصر الأطفال على الاستمرار في لعبة الاقتراح ولعبة التخييل إلى ما لانهاية).

ويضيف ضاحكا:(كان الأطفال خارج إطار المسؤولية الاحترافية التي يتطلبها أي عرض, ومسؤوليتهم الوحيدة التي أجادوها حقا وسعينا للاستفادة منها كانت هي اللعب).

وعن أهمية هذه التجربة يؤكد حسن على ضرورة ومبدأية العمل على تطوير فكرة (اللعب) بالنسبة للأطفال, وتخليص هذا اللهو من (العشوائية والفوضى).

وعما إذا كان لأي من هذه الأفكار تأثير ما على الحراك المسرحي المحلي في سوريا خاصة وأننا نتحدث هنا عن مسرح الطفل الذي قد لا يكون له كبير اعتبار في نظر بعض المشتغلين على المسرح في البلد يجيب حسن قائلا:(هناك شكوى دائمة فيما يخص المسرح السوري تتلخص بأنه بلا جمهور, أو ما بات يعرف بعزوف الناس عن متابعة العروض المسرحية, ولذلك بالطبع أسباب كثيرة, ولكن أهمها فيما أعتقد أنه لايوجد لدينا اهتمام بمسرح الطفل لتكوين قاعدة للمستقبل المسرحي. وأنا لا أشترط هنا لمن يعمل في مسرح الطفل من الأطفال أن يتحولوا مستقبلا إلى ممثلين أو رجالات مسرح؛ ولكن من الممكن لمن يشارك منهم في طفولته ضمن عمل مسرحي أن يتحول في قادم الأيام إلى شخص محب للمسرح, وكل ما آمله هو ألا يبقى مسرح الطفل عندنا مجرد وسيلة تعليمية تربوية محضة, إذ أنّ المسرح المدرسي عاجز عن خلق حالة تراكم عند الاطفال باعتباره مرتبطا بالمهرجانات والمناسبات لا أكثر).

مصادر
سورية الغد (دمشق)