لا يشبه الاستفزاز العسكري الإسرائيلي لسوريا سابقاته. ولا شك أنه لم يفت القارئ النبيه أن إسرائيل التزمت الصمت هذه المرة، وأنها فرضت حتى على أكثر سياسييها ثرثرة أن ينحو هذا المنحى، هدوء ما بعد العاصفة، لأنه قد يصبح هدوء ما قبل العاصفة.

والجديد أيضاً أن سوريا التي تصمت عادة ويصعب على الصحفي أن يعثر فيها على سياسي يعلق على مثل هذا الفعل الإسرائيلي في اليوم نفسه، خرجت بتصريح حاد ومتكرر ومتوعد لاختراق مجالها الجوي، فيما صمتت إسرائيل، التي تفاخر عادة بمثل هذا العمل، وتفاخر أيضاً بالصمت السوري الأولي الذي يعقبه.

تصدت المضادات السورية. واضطرت الطائرات المعتدية إلى إلقاء خزانات وقود في الأراضي التركية المحاذية. واحتجت تركيا علناً، مطالبة بإيضاحات.

صمت أولمرت، وصمت وزراؤه، وصمتت أميركا، وألغيت حتى مقابلات عيد رأس السنة العبرية الصحافية التقليدية تجنباً للأسئلة. وتفاخر أولمرت بالعملية ذاتها، كما تفاخر بأنه هادئ. وطبعاً يبدو أنه لا أحد في الكيان المعتدي فطن لوزير منسي، ولم يخطر ببال أحد أن ينبهه إلى أن يلتزم هو الآخر الصمت. ربما لأن لسانه ليس حصانه أصلاً كي يخونه. اختراق سلاح الجو الإسرائيلي للسماء السورية ليس جديداً، لكنه ليس روتيناً كما حاول وزير عربي صهيوني في الحكومة الإسرائيلية أن يصور الأمر في خدمةٍ لأسياده لم يُكَلَّف بها، ومهمة تخفيف تطوَّعَ لها من دون أن يُطلَب منه، كأنه يهدئ النفوس في بداية صلح عشائري على وزن «بسيطة يا جماعة، ما صار شي»!!.

وفوراً حاول بعض المعلقين العرب توظيف الكليشيهات العادية: محاولة استفزازية لجرّ سوريا إلى حرب. رد إسرائيلي على قرار الجامعة العربية (وكأن أحداً يأبه لقراراتها). ويتلخص القرار الخطير (!!) الذي اتخذه مجلس وزراء خارجية الجامعة بأنه لا يجوز عقد مؤتمر دولي للسلام في واشنطن من دون سوريا ولبنان... (واهتزت أركان البيت من شدة القرار). لاحظ كيف أُزيح النقاش، باختلاق تحدٍّ غير قائم، لتصبح دعوة سوريا ولبنان للمؤتمر إنجازاً. لم يتخذ أسود الخارجية في الجامعة أي قرار متعلق برفض إسرائيل المبادرة العربية، ولم يصروا على مضمون مؤتمر واشنطن وشروطه. لقد اقتحم أسود الخارجية في الجامعة العربية عنوة باباً مفتوحاً أصلاً، واختلقوا تحدياً غير قائم، وتجنبوا التحدي الفعلي بتجنب التساؤل عن ضرورة عقد مثل هذا المؤتمر وفضح أغراضه الحقيقية. لا يعرض هذا المؤتمر على سوريا ولبنان أي شيء يخص أراضيهما، ولم تتم الدعوة بناء على تصور حل لقضية فلسطين، ولا تسوية عادلة نسبياً. وإذا دعي سوريا ولبنان فسوف يُدعَوان فقط ليكونا شاهدي زور لعملية «تقوية محور المعتدلين الفلسطينيين». والأصح أن تعرب الدولتان عن عدم رغبتهما بالمشاركة في هذا المؤتمر ـــــ المؤامرة حتى لو دعيتا لحضوره، وليوفر الوزراء الأشاوس نخوتهم المفتعلة.

وليس لدي شك بأن إسرائيل ترحب بحضورهما من دون شروط ودون طلبات، فقط إذا جاء هذا الحضور تعبيراً عن الامتنان لدعوتهما ورغبة منهما في تشجيع «المعتدلين الفلسطينيين».

لا يوجه الاستفزاز الجوي الإسرائيلي رسالة إسرائيلية غير الاختراق ذاته. ويبدو أنه ليس مجرد اختراق، بل هو عملية فعلية، كان لها بذاتها هدف استراتيجي يبرر الصمت. واعتمدت إسرائيل في صمتها على عدم رغبة سوريا في أن تحرج ذاتها فتبحث موضوع الاختراق الجوي علناً. والدولة المعتدية لا تود أن تتبرع بشرح المبررات والمفاخرة بخرق القانون الدولي وغيره في حالة توتر ينتظر عود ثقاب. ويبدو أن موضوع الاختراق هو إما ضرب عمليات نقل جارية على الأرض، أو مضادات أو قواعد صواريخ قبل نصبها كاستمرار لما أدلت به إسرائيل أخيراً وصراحة ضد روسيا ودورها في سوريا، أو استكشاف العثرات والرادارات وتجهيز الطريق إلى إيران. وهذا لا يمكن من دون تركيا، ومن الواضح أن تركيا إما لم تأذن أصلاً، أو أُحرجت بعد إلقاء الخزانات على أراضيها، فاستنكرت مطالبة بإيضاحات. التحفظ هنا أنه مع الوجود الأميركي في العراق أصبح هنالك طريق جوي أسهل إلى إيران، لكنه يورط دولاً غير معادية لإسرائيل...

باختصار، ومن دون المبالغة بالتخمينات والتكهنات، هذه عملية جوية، لا اختراق يحمل رسالة. المسألة إذاً خطيرة فعلاً. وعموماً يجب أن ننبه إلى أنه إذا لم تشن إسرائيل الحرب على سوريا أو لبنان، وإذا وصلنا إلى نتيجة مفادها أن الأمر مرتبط بالخطوات ضد إيران، وهل هي أميركية أم إسرائيلية، فإن احتمال تنفيذ عمليات إسرائيلية متفرقة في سوريا ولبنان لتحقيق إنجاز عسكري هنا، وخطف واغتيال هناك، يزداد، وذلك بالذات كلما قل احتمال شن حرب منفصلة غير إقليمية على البلدين. هذا إلا إذا قرر أحد في سوريا أو لبنان تحويل عملية إسرائيلية إلى سبب للحرب كما فعلت إسرائيل متذرعة بعملية لم تقم بها دولة أصلاً قبل عام.


ساركوزي مؤخّراً

لم يكن ممكنا تخيل رئيس فرنسي يقضي إجازته السنوية في اميركا. الرجل يتجاوز محرمات رئيس جمهورية فرنسا إذ يبدي إعجابه بنمط الحياة الأميركي، وإذ يرى ان على فرنسا أن تتعلم أمرا او اثنين من النمط الأنجلو-سكسوني في إدارة الاقتصاد.

إنه اليمين الأوروبي الجديد الأقل رغبة بالتميّز عن أميركا من سابقه اليمين المحافظ. ولكنه أيضا اقل تورطا شخصيا في عداءات في المنطقة. إنه ملتزم أكثر من شيراك ضد السلاح النووي الإيراني، ولكنه يعاني أقل منه من عبء الالتزام الشخصي لطرف واحد في لبنان، بما في ذلك العداء الكامل لسوريا. من هنا يبرز للعيان بعض التغيير، ولكن الصورة الشاملة يجب ألا تغيب عن الأذهان. الحديث هو عن رئيس أقرب إلى السياسة الأمريكية وبراغماتيتها. هذه البراغماتية تحديدا في سياق فرنسا تنجب اختلافا لا خلافا، وتمايزا لا تميّزا.

ليس في جعبة فرنسا تأثير فعلي يتجاوز التأثير المعنوي في لبنان. وقد ازداد هذا التأثير المعنوي بعد شيراك. وتكمن أهمية الدور الفعلية في عصر ساركوزي أن يإمكانه التوسط لدى أميركا لقبول تسوية ووفاق لبناني، فهو يصلح ليكون وسيطا بين اميركا ولبنان على تياراته. وهو وسيط عند بوش وليس عند فيلتمان أو حتى رايس. يمكن أم يكون هذا هو الدور الفرنسي في مرحلة الحديث عن رئيس توافقي لوأد الفتنة وفي حالة الاتفاق عليه لبنانيا.


إنسانية «النصر الإلهي»

وجهت لي سيدة في إحدى محاضراتي في بيروت السؤال التالي: " كعلماني، ما هو رأيك بسخرية علمانيين من مصطلح التصر الإلهي؟" سمعها الحضور تسأل بألم، ولم يسمعني أجيب لضيق الوقت. وما زلت مدينا لها بجواب.

قد يسخر العلمانيون من اتكالية وعجز قوم ينتظرون نصرا إلهيا يحل عليهم، ولكنهم لا يفترض إلا أن يعجبوا بقوم غير خرافيين غيروا ما في أنفسهم وجهزوا نفسهم وعملوا بكد وأقاموا مؤسسات وحولوا مجموعة سكانية مضطهدة ومهمشة الى مجموعة سكانية فاعلة ومنظمة ومؤثرة ومنتجة وخاضوا القتال دفاعا عن النفس وانتصروا. ونسبوا انتصارهم هم، وليس انتصار غيرهم، نسبوه لله تواضعا أو إيمانا، أو كليهما. ما المشكلة في ذلك؟ سمعنا عن مناضلين علمانيين نسبوا انتصارهم لمجمل الشعب والأمة، وأحيانا للحزب وحتى لثقة الزعيم القائد وإلهامه. ألم نقرا نقدا وجه لمناضلين علمانيين نسبوا النصر لأنفسهم ولم ينسبوه للطبقة العاملة او للشعب او للجماهير. المطلوب بعض التواضع عند نقد تسميات الآخرين لأفعالهم. وحذار حذار من السخرية، فهي خلافا للدعابة وحتى خلافا للتهكم تحول بالغا الى مراهق اكتشف بلوغه لتوه ولا تسعه الدنيا لشدة السخرية المختالة غير المكترثة. ولا فائدة تجنى من ثنيه او نهيه عنها ناهيك عن الحديث معه قبل مضي عام او عامين تمكناه من التفكير مع بعض الوعي الذاتي المؤدي عادة للإحراج والخجل.

فلسطين: النقاش الشكلي والنقاش الجوهري

النقاش بين فتح وحماس حول تسليم المقرات الأمنية في غزة للأجهزة الأمنية من عدمه، وحول شرعية التشريعات دون انعقاد المجلس التشريعي، وحول قانونية هذه الخطة أو تلك هو نقاش شكلي. وكان يمكن ان يكون دستوريا وجوهريا لو كان الحديث عن دولة فعلا.

ولكنه شكلي لانها ليست دولة، ولانه يخفي الأجندات الحقيقية.

فالأجهزة الامنية ليست أجهزة وطنية محايدة بل تابعة سياسيا. والنقاش الحقيقي ليس على تسليم المقرات، بل لمن تسلم؟

ورئيس السلطة الفلسطنية (هذا هو لقبه القانوني الرسمي في اتفاقيات اوسلو، وليس الرئيس الفلسطيني) ماضٍ في أجنداته السياسية متنفسا الصعداء أنه تخلص من حماس ومن اي قيد آخر عليه في تنفيذ هذا البرنامج. وهو، ومعه لوبي السعداء المحيط به والذين لا يبدو عليهم السرور والغبطة إلا عندما يفاوضون إسرائيليين، ماضون في مشروعهم السياسي بين دولة مؤقتة وإعلان مبادئ، أو حلول أخرى غامضة بشكل كاف لكي لا تغضب ليبرمان فيخرج من الائتلاف ولا تحرج باراك أمام جناح حزبه المطالب بترك الائتلاف مثل أوفير بينس.

وغالبية المجموعة المزدهرة المحيطة برئيس السلطة ليست من حركة فتح اصلا... حتى هذه أصبحت مسألة شكلية رغم استخدامها للتعبئة والتجنيد.

ومنظمة التحرير قد أفرغت من مضمونها بفعل نفس التيار. ويجري إحياؤها الآن بقوانين قانونية أو غير قانونية لكي تنصّب مقابل وضد المجلس التشريعي المنتخب.

وحماس المتمسكة بالمجلس التشريعي لا تجرؤ ان تحرج هذا التيار بالمطالبة بإعادة بناء المنظمة من أجل الاعتراف بها وبشرعيتها السابقة على شرعية المجلس التشريعي، بل تلعب لعبة هذا التيار فتبدو كمن يقف ضد المنظمة. وهو نقاش شكلي. فالتيار الذي يصلح ان يسمى حزب الرئيس ليس مع المنظمة بل يستخدمها ثم يرميها. وعلى حماس ان تثبت ذلك باقتراح إعادة بناء المنظمة وضمها وحركة الجهاد اليها. عندها يتضح ان استخدام المنظمة شكلي.

في هذه الاثناء تنشغل حماس بضمان الغذاء والوقود، وتفتعل إسرائيل أزمة بعد اخرى لتبقى حماس منشغلة في هذا الموضوع دون جوع حقيقي. وبدل نقد النهج السياسي لحزب الرئيس بدت كأنها لا تنتقده مبدئيا، بل لأن التفاوض مع إسرائيل يجري بعد حل الحكومة. وعلى حماس ان تقرر، وان تظهر قرارها للناس هل هي مشروع سلطة ام مشروع مقاومة. ولكل خيار مستلزماته. عندها ينتهي النقاش الشكلي ويبدأ النقاش الجوهري. وأول أدوات خوضه إقامة جبهة مقاومة وطنية تنتقد ما يجري سياسيا ولا تدعو للعودة إلى محاصصةٍ انتهى أجلها ونفذ مفعولها، بل تدعو لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني.