نمرّ في مرحلة وجدنا فيها من جديد الفرصة كي نثبت لأنفسنا والعالم على السواء مدى النضوج الذي بلغته الديموقراطية في بلادنا. قبل وقت قصير، أجرينا انتخابات عامّة لقيت ثناء واسع النطاق في مختلف أنحاء الكرة الأرضية. وها نحن نخرج من انتخابات رئاسية جديرة بأعلى درجات الثناء.

أعرب عن خالص تقديري لهذا المجلس الموقّر لانتخابي الرئيس الحادي عشر للبلاد.
نحن الأتراك ورثة تاريخ يدعو إلى الاعتزاز وأمّة أنشأت الكثير من الدول والأمبراطوريات العظيمة في مختلف أنحاء العالم. يجب أن نعمل جميعنا يداً بيد، بدءاً بمن يتولّون مناصب متعدّدة في دولتنا وحكومتنا، كي نرسّخ أكثر فأكثر الجمهورية التركية التي سنسعى بكل عزم وتصميم إلى ضمان بقائها الأبدي. يجب أن نضع دائماً نصب أعيننا الهدف الذي حدّده أتاتورك العظيم، مؤسّس جمهوريتنا، وهو "رفع الجمهورية التركية إلى أعلى من مستوى الحضارات المعاصرة".
منذ تأسيسها إلى يومنا هذا، رسّخت الجمهورية التركية باستمرار وجودها ومكانتها على السواء. ولم تتأسّس هذه الجمهورية من دون عناء، ولم نصل إلى ما نحن عليه الآن من دون تكبّد مشقّات. ودماء الشهداء التي تخضِّب كل شبر من أرضنا المقدّسة خير شاهد على ذلك. كان على الكوادر الذين أسّسوا جمهوريّتنا بذل جهود استثنائية لشنّ حرب الاستقلال أولاً ضد أعداء قساة، ثم لجعل بلادنا عضواً محترماً في مجتمع الدول الحديثة. نعرف جميعنا جيداً المشقّات التي تكبّدوها في تلك المرحلة. وهذا المجلس الموقّر هدية إلينا من هؤلاء الأشخاص المترفّعين عن ذواتهم.
الجمعية الوطنية الكبرى التركية التي تستند إلى إرادة شعبنا والتي تجسّد بوجودها بالذات تلك الإرادة، هي المكان الوحيد الذي تُتَّخذ فيه القرارات حول حاضر بلادنا ومستقبلها. يمثّل وجودكم هنا في هذه الجمعية التي انبثقت عن الانتخابات الأخيرة التي شهدت إقبالاً عالياً جداً، إرادة شعبنا بالطريقة الأكثر شمولاً وقدرة. لقد عزّزت الانتخابات الأخيرة أكثر فأكثر الطبيعة الشاملة والتمثيلية لديموقراطيتنا. إنّه لشرف كبير لي أن أستحقّ تقدير هذا المجلس ذي التمثيل الواسع جداً. ومن الطبيعي أن أسعى دائماً للحصول على دعمكم بينما أضطلع بواجبات المنصب الأوّل التي أوكلتموها إليّ.
وأنتهز هذه الفرصة لأوجّه تحيّة مع فائق الاحترام إلى رئيس جمهوريتنا الأول مصطفى كمال أتاتورك وجميع الرؤساء الآخرين الذين تولّوا المنصب الرفيع نفسه. فلتحلّ نعمة الله على من رحلوا عنّا. أعرب لهم باسم شعبنا عن أصدق مشاعر الامتنان.

سوف أحضن جميع مواطنينا من دون أيّ تحيّز

أعي تماماً صعوبة المهمة الملقاة على عاتقي. "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة. ويمثّل بصفته هذه الجمهورية التركية ووحدة الأمة التركية؛ ويحرص على تطبيق الدستور وتأمين العمل المنتظم والمنسجم لكل أجهزة الدولة". هذا مطلب دستوري. وما دمت في المنصب، سوف أحضن جميع مواطنينا من دون أيّ تحيّز. سأكون حريصاً جداً على الحفاظ على الحياد وأفعل كل ما بإمكاني لضمان عمل أجهزة الدولة بطريقة منسجمة.
الجمهورية التركية هي دولة "ديموقراطية" و"علمانية" و"اجتماعية" "تحكمها سيادة القانون". هذه الصفات المنصوص عليها في مواد الدستور غير القابلة للتغيير، متلازمة وكل واحدة منها هي بلا شك مبدأ أساسي في جمهوريّتنا. سأكون دائماً مصمّماً وعازماً على الدفاع عن كل من هذه المبادئ، من دون أيّ تمييز بينها، وعلى ترسيخها أكثر فأكثر في كل مناسبة.
في الديموقراطية التي هي نظام حقوق وحرّيات، العلمانية التي هي من المبادئ الأساسية لجمهوريّتنا، نموذجٌ يقع في أساس حرية عيش أنماط حياة مختلفة إذ إنّها تشكّل إحدى قواعد الانسجام الاجتماعي. وليس هذا كل شيء؛ فالالتزام بمبدأ العلمانية هو الوسيلة الأنسب كي نقضي منذ البداية على النزاعات وعناصر المشاجرات التي تظهر من وقت لآخر في كل مجتمع. عندما نفكّر في الحقائق والحساسيات المتأصّلة في جغرافيّتنا، نفهم في صورة أفضل معنى مبدأ العلمانية التي تضمن أيضاً حرية الدين والمعتقد.

حقوق المواطنين وحرّياتهم

من المسائل ذات الأهمية القصوى التي أودّ أن ألفت انتباهكم إليها الحاجة إلى الوثوق بالنظام الديموقراطي. فالنظام الديموقراطي الذي ينتخب فيه المواطنون ممثّليهم، هو هيكليّة تستند إلى مبادئ القانون الشاملة حيث يمكن اللجوء إلى الوسائل القانونية والتمتع بالحقوق والحريات الأساسية كاملةً على المستويَين الفردي والجماعي. قيام مجتمع منفتح هو الحدّ الأدنى المطلوب لتطوّر البلدان واكتمال الأفراد. إن حرّيات الفكر والتعبير والدين والمعتقد المنصوص عليها في الدستور هي في الوقت عينه الضمانة التي تؤمّن حياة كريمة لشعبنا. يجب ألاّ ننحرف أبداً عن الهدف المتمثّل ببناء مجتمع منفتح حيث يمكن التعبير عن أيّ نوع من الآراء – شرط ألاّ تحرّض على العنف – بحرية ومن دون خوف. لقد تعلّم العالم المعاصر منذ وقت طويل ألاّ يخاف من الحريات الأساسية؛ وبدورنا يجب أن نطالب بملكيّة حرّياتنا بوصفها القيم الأكثر حيوية في مختلف الظروف.
في عالم اليوم، ينتشر أكثر فأكثر فهم واسع النطاق يُسلَّط فيه الضوء على الخصائص المختلفة وحيث لم يعد التغيير والتنوّع يثيران الخشية. ما دامت القيم التي تربط بيننا كأمّة سليمة والمبادئ الأساسية للنظام الدستوري متجذّرة ومحطّ احترام من الجميع، لكن تكون اختلافاتنا وتنوّعاتنا نقطة ضعف بل على العكس ستكون ثروتنا الكبرى. إذا أدركنا هذه الحقيقة، يمكننا أن نرسّخ أكثر فأكثر وحدتنا وتضامننا، وكذلك سلامنا وتقيّدنا بالنظام. وبما أنّ ثقافتنا الديموقراطية تستمدّ غذاءها من التعدّدية، يمكننا أن نتبنّى بسهولة أكبر القيم التي تجعل منّا ما نحن عليه.
كما نعلم جميعنا، الدول موجودة لتأمين سعادة شعوبها وسلامهم ورفاههم وأمنهم. لا يستطيع بلد ما أن يدّعي بأنّه معاصر إذا كان مواطن واحد يتعرّض للتمييز أو يواجَه بالاستهجان بسبب خصائصه الدينية أو اللغوية أو الإتنية أو وضعه الاقتصادي.
العنصر الأهم الذي يجب الحفاظ عليه في نشاطات الدول هو مقاربة للخدمة العامة مستندة إلى الشعب. الحقوق الأساسية التي يتمتع بها كل المواطنين منذ الولادة هي أمر جوهري. ويعني هذا أنّه ينبغي على الديموقراطيين من كل المستويات والسياسيين من كل الانتماءات الذين يتصرّفون باسم الدولة والحكومة أن يعوا دائماً أنّ مهمتهم الأساسية هي حماية حقوق المواطنين وحرّياتهم.
يجب أن يكون هدفنا الأساسي تأمين الظروف التي تقود إلى مساواة كاملة على أساس الجندر ومشاركة فاعلة للمرأة في كل مجالات الحياة. وأريدكم أن تعلموا أنني سأدعم كل خطواتكم في سبيل تحقيق هذا الهدف.

مبدأ "العدالة" وسيادة القانون

انتشار الشعور بالعدالة بين المواطنين هو من العناصر الأهم لتأمين تنمية اقتصادية مستدامة وانسجام اجتماعي مستمر. ويقع مبدأ العدالة ضمن مفهوم "دولة" تحكمها سيادة القانون. يجب أن تكون الجمهورية التركية دولة يعمل فيها النظام القضائي بأقصى سرعة ممكنة، وحيث لا يتزعزع شعور الناس بالعدالة ويكون ضمير الجميع مرتاحاً. والضمانة لذلك هي إرادة أعضاء البرلمان الموقّرين وتصميمهم.
الشعور القوي بالثقة الاجتماعية هو الذي سيجعل المواطنين يلتحمون بدولتهم بروابط لا تنفصم، ويحفّزهم أكثر فأكثر على المطالبة بملكية النظام الديموقراطي ويزيد من اعتزازهم وفخرهم. يأتي الفساد والظلم في رأس قائمة الآفات التي تزعزع الثقة الاجتماعية. وبناءً عليه، الشفافية في الحياة العامة هي الطريقة الأكثر فاعلية للقضاء على الفساد والظلم. يجب أن يتمكن كل مواطن من الولوج إلى المعلومات التي يحتاج إليها بأسرع وقت ممكن. ولا يتحقّق هذا الأمر إلاّ من خلال إعلام مستقلّ وحيادي مدرك لمسؤوليّاته.
وبما أنّ تركيا تملك نظاماً قانونياً معاصراً، ستزيد الشفافية والاستقرار من قوّتها ومكانتها بين الأعضاء الآخرين في المجتمع الدولي. من الضروري تأمين فرص متساوية لكل المواطنين في مجالات الحياة كافة مثل التعليم والاقتصاد والواجبات العامة والإفادة من الخدمة العامة من أجل الحصول على أفراد يتمتّعون بالثقة بالنفس، وعلى نسيج اجتماعي قوي.

مفاوضات العضوية في الاتحاد الأوروبي

أصابت تركيا في اختيار هدفها، وقطعت حتّى الآن أشواطاً كبيرة نحو تحقيقه. يجب أن نستمرّ في القيام بخطوات راسخة متحلّين بإرادتنا الحرة وتصميمنا، فنُكمِل الطريق الذي سلكناه في 3 تشرين الأول 2005 عندما أطلقنا مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. من الضروري لبلادنا أن ننفّذ بحزم أكبر الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تقودنا باتّجاه العضوية في الاتحاد الأوروبي. المناخ السياسي في أوروبا عرضة للتغيير المستمرّ. وفي سبيل بلوغ المعايير الحديثة المهمّة بالنسبة إلينا، يجب أن نتمكنّ من أن نُظهِر عند الحاجة الإرادة لفتح فصول المفاوضات وإغلاقها بأنفسنا. بعد أن تُنجز تركيا عمليتها الإصلاحية وتحقّق تالياً الالتقاء الكامل مع الاتحاد الأوروبي في كل المجالات، سوف تتخذ بنفسها القرار بشأن عضويتها في الاتحاد الأوروبي عندما يحين الوقت المناسب. يجب أن ننفّذ هذه الإصلاحات ليس لأنّ الآخرين يريدونها إنّما لأجل شعبنا، ومن تلقاء أنفسنا. مع مرور الوقت، سيصبح من الأسهل بكثير على تركيا حديثة وقويّة تجاوز العقبات التي تعترض طريق انضمامها إلى الاتّحاد الأوروبي، وهكذا تفقد هذه العوائق معناها. يمكننا أن نحقّق هذا.
أنا واثق من أنّه عندما يحين الوقت للاحتفال بالذكرى المئة لتأسيس جمهوريّتنا، ستكون تركيا قد أصبحت أحد البلدان الأساسية في العالم مع مؤسّساتها الديموقراطية القويّة والراسخة وتفوّقها الاقتصادي، والثقة المتبادلة بين سكّانها وهيكليتها المجتمعية حيث يُعتبَر التنوّع ثراء. بفضل ديموقراطيتها واقتصادها وقوّاتها المسلّحة القويّة، لن تجعل تركيا مواطنيها سعداء وحسب بل ستجلب أيضاً الراحة والاستقرار لمنطقتها. نعيش في منطقة جغرافية محفوفة بالمخاطر؛ وينبغي على تركيا أن تكون في عيون منطقتها وعيون المراقبين الخارجيين، واحة أمن من كل النواحي في هذه الجغرافيا.

الأمن القومي والقوات المسلحة التركية

في هذا السياق، إنه شرط مسبق أساسي لأمننا القومي أن نحافظ على قوة الردع العالية التي تتمتع بها القوات المسلحة التركية القوية والحديثة والفعّالة والتي ندين لها بالانتصارات التي سنحتفل بها هذا الأسبوع [الأسبوع الماضي]، والتي حظيت بتقدير العالم وإعجابه كرمز لاستقلالنا.
نحتاج أيضاً، لا سيما على ضوء التطورات الأخيرة التي تستهدف أمننا، إلى تعزيز قوة الشرطة المتفانية، فهي ضمانة لقانوننا ونظامنا في وجه كل الممارسات التي تهدد أمننا. يجب ألا ننسى أنه من غير الممكن لبلد أن يطوّر ازدهاره ويحسّنه إذا لم يتمكن مواطنوه من أن يناموا بسلام في الليل.
سنواصل نضالنا الفاعل بعزم كبير ضد الأعمال الإرهابية التي تهدد وحدة تركيا غير القابلة للانقسام. ويخلّف لدينا شهداء هذه الأمة الذين سقطوا في هذه القضية حزناً عميقاً. "تحرق الجمرة مكانها" لكن دولتنا موجودة لتخفيف المعاناة وإخماد النيران. لن ننسى أبداً أن الشهداء عهدوا إلينا بعائلاتهم وأقربائهم.
يجب أن يبقى مبدأنا الأساسي "سلام في الداخل، سلام في العالم". عندما تتقاسم بلادنا، من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال، منافع الازدهار بالتساوي، سيسمح هذا بتحقيق السلام والاستقرار على نطاق واسع، وتعزيز الروابط الأخوية بالاستناد إلى الثقة والاحترام المتبادلَين. أعتبر أن علاقاتنا مع الجمهورية والجماعات التركية هي مسؤولية تاريخية، وسأتابع المسألة بحرص شديد. بينما نستمرّ في تعزيز علاقاتنا مع جيراننا بتصميم أكبر، يجب أن نطبّق سياسات ناشطة للحفاظ على زمام المبادرة، من دون أن نكون غير مبالين بالتطوّرات في العالم.

متطلّبات الدولة الاجتماعية

ندرك جميعنا متطلّبات الدولة الاجتماعية والحاجة إلى توسيع نظام الضمان الاجتماعي. نعرف أنّ هناك أموراً كثيرة يجب معالجتها في مجال الصحة، وأنّه ينبغي علينا قطع أشواط جديدة في مجالات التعليم والعلوم والتكنولوجيا. يجب أن نستمرّ في الحفاظ على استقرار اقتصادنا التنافسي على المستوى الدولي. لا تستطيع الاقتصادات المنطوية على ذاتها الصمود في عالم اليوم. يجب أن تكون وسائل المنافسة الكاملة مفتوحة دائماً في الداخل والخارج على السواء. وفي الجهود التي نبذلها لتعزيز رفاه شعبنا ورفع أمتنا إلى مستويات أعلى، سيكون الاقتصاد الفاعل والفعّال ذو القوة التنافسية العنصر الأهم.
قبل أن أختم، أود أن أكرر بأقوى العبارات الاقتناع الذي عبّرت عنه في البداية. خلال اضطلاعي بهذا الواجب السامي الذي أوكلتموه إليّ، سأطلب دائماً وفي مختلف الظروف دعم هذا المجلس الموقّر الذي يعكس أمتنا وإرادتها. سيكون بابي مفتوحاً للجميع. وسأكون في تعاون وثيق مع كل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع الأهلي من دون تحيّز. وسأولي اهتماماً شديداً للديموقراطيات والحقوق والحريات الأساسية. سأكمل مسيرتي بشفافية وحياد مطلق، وأحتضن كل المواطنين. سأبذل قصارى جهدي من أجل رفاه بلادي وسلام أبناء وطني. سأعمل بلا كلل من أجل تركيا مثالية حيث لا قمع ولا اعتباطية ولا فرق بين الضعيف والقوي في التمتع بالحقوق، وحيث نحمي حقوق المواطنين ونسهر عليها. سأعمل من أجل تركيا قوية في الداخل ومحترمة في العالم.

وقانا الله من الحرج.

أحيّي من جديد أمّتنا العظيمة وأحيّيكم جميعاً بكثير من الاحترام والمحبّة والامتنان.

مصادر
السفير (لبنان)