أثار الخرق الاسرائيلي الأخير للأجواء الشمالية السورية موجة من التساؤلات والشجب. وقد لا يكون التفسير دقيقا لأهداف هذه العملية التي حصلت في منطقة بعيدة عن المراكز الحيوية في الدفاع الاستراتيجي. فلا يكفي القول انها رسالة وتلويح، فكثرة الرسائل وتعدد جوانب التلويح والمتغيرات الاستراتيجية في المنطقة، جعلت الحال أكثر تعقيدا. ومن المستبعد أن تكون هذه الرسالة قد حققت أهدافا. فمتغيرات الموازين تسببت في غياب المبالغة والإفراط في التحليل والتفكير.
وفي الربيع الماضي توقعت صحف اسرائيلية حربا سورية اسرائيلية في الصيف، ثم أرجأتها الى الخريف. والحقيقة لم يسجل القدر الأدنى من مؤشرات الحرب في الفصلين. كما أن فرص تحقيق مباغتة استراتيجية لعملية كبرى قد تضاءلت الى حد كبير، وربما لم تعد واردة اطلاقا. فالمنطقة على الطرفين خاضعة لرصد مستمر على مدار الساعة، ولا يمكن لحرب أن تنشب من دون تصعيد سياسي كبير، خصوصا في المرحلة الحالية.
توازن صعب
في الحروب التقليدية المباشرة السابقة، كانت اسرائيل تتمتع بتفوق تقني كبير. ففي الوقت الذي كانت أميركا تقدم أحدث معداتها الى اسرائيل كان الاتحاد السوفيتي يقدم الى دول عربية خطوطا غير متقدمة من سلاحه، ومع التباين التكنولوجي، يصبح الفرق كبيرا في المجال الجوي. وكان الزمن والجهد كفيلان في تقليص هذه الفجوة الخطيرة. فطائرة F16 بقيت على حالها تقريبا فيما حققت وسائل الدفاع الجوي الروسية تقدما على مدى العقدين الأخيرين. وهو ما انعكس ايجابا لمصلحة الكفة السورية، التي جرى التركيز مرارا على حصولها على منظومات دفاع جوي متطورة من أحدث الصناعات الروسية، وربما كان هذا أحد أهم أسباب أن يكون الخرق الجوي الأخير بعيدا.
ولم تعد المسألة متعلقة بمقارنة فنية بين طائرات الميراج والفانتوم الاسرائيلية والميغ السورية، بل تعدتها كثيرا لتشمل كل الجوانب والمتغيرات التي طرأت على لعب الإقليم ولعبة الأمم الكبرى. ويمكن الاستدلال بالمؤشرات والمتغيرات التالية :
1- كل الدول البعيدة عن الخط الأميركي تنظر الى الخط البياني الأميركي على انه في حالة نزول مستمر، و قد يساور أصدقاء أميركا قلق جدي، نتيجة تعدد مناطق الصراع وجبهاته وتعذر الحسم العسكري والسياسي في أي من البقع، ابتداء من وسط أفريقيا الى بطن آسيا الهش، الذي تتزايد فيه فرص الخطر البعيد الأمد، مرورا بلبنان والعراق، والخليج الذي امتلأت مياهه بمخاطر جدية. فحقيقة الحال أن الصراع بات منهكا لأميركا الى حد يخرج عن طاقتها تدريجيا. وهو وضع يؤسس عليه خصوم أميركا، خاصموها أم هي التي خاصمتهم، استراتيجيات عملية المجابهة. وفي ضوء هذا الوضع المعقد فإن أميركا ليست مستعدة لدعم حرب أخرى على الساحة السورية الاسرائيلية.
2- كانت المساعدات العربية الى سوريا في العقود السابقة كقطرات جرة الماء، وهو ما يجعل القدرات العسكرية مرهونة بما يمكن توفيره من متطلبات الحياة اليومية. أما الآن فإن الاقتصاد السوري يشهد تحسنا كبيرا والاستثمارات الخارجية تتدفق على الساحة السورية، وان قدرة سوريا على تحمل تبعات أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ عراقي لدليل على تطور الوضع الاقتصادي. مما يوفر مجالا أوسع لتعزيز القدرات الدفاعية.
3- أظهرت تجربة حرب العراق، أن الحرب التقليدية لم تعد نزهة حتى عندما تبنى على عناصر التفوق، فالخسائر فيها باهظة جدا وقد فاقت على الطرفين ضربات هيروشيما وناكازاكي. كما ان التدخلات العربية والإقليمية لم تعد محسوبة على موقف الحكومات، بل على المعطيات الأخرى في المجالات الذاتية والمؤسسات الدينية والجمعيات الخيرية فضلا عن التكتلات الحزبية والمنابر الإعلامية التي باتت السيطرة عليها غير ممكنة ربما إلا بعد فوات الأوان. ولا بد أن المؤسسات الاستخبارية الإسرائيلية درست حرب العراق واستخلصت منها دروسا حاسمة تبعدها عن تأييد أي قرار لحرب هجومية.
4- أثبتت حرب الثلاثة والثلاثين يوما على الساحة اللبنانية، أن القوة المدرعة الضاربة لم تعد سيدة الموقف، علما أن القوة الاسرائيلية لم تجابه كل الخيارات الممكنة في إدارة صراع مقابل.
 5 أعطت أحداث مقدمة القرن الراهن، أن فكرة التغيير السياسي تحت وطأة الحرب أو في ظلاله ومخلفاته تقود الى مواقف لا يمكن التحكم بها إطلاقا وتقود الى محرقة للأخضر واليابس.
6- شهدت سوريا استقرارا سياسيا امتد الى ربع قرن وقد أعطت حرب الجوار قوة زخم للموقف السوري. وهو قياس لا بد أن تأخذه اسرائيل بنظر الاعتبار جديا.

ليس من مصلحة سوريا شن حرب على إسرائيل، ولا مؤشر عن وجود أي توجه الى ذلك، فالاستراتيجية السورية مبنية على فلسفة محددة بحسابات المدى البعيد، و أن قرارا اسرائيليا بمهاجمة سوريا سيكون انتحارا وسيتسبب في انفجار كبير في المنطقة. ولإعادة بناء الإقليم لا بد من إعادة الاراضي المحتلة الى أهلها. فخطوة كهذه تشكل مفتاح نهاية الصراع.

مصادر
القبس (الكويت)