شيء رائع أن يكون المرء موجوداً في بلد لا يذكر فيه اسم العراق أبداً. ولكن الذي يقلل من هذا الشعور إلى حد ما أن يكون المكان هو أكبر دولة منافسة جيوبولوتيكياً واقتصادياً للولايات المتحدة في الوقت الراهن، ألا وهي الصين.

أثناء وجودي في مدينة "داليان" في الصين، استمعت لرئيس وزرائها "وين جياباو" وهو يخطب أمام مؤتمر دولي عُقد في المدينة. وأكثر ما لفت انتباهي في كلمته، هي أنها كانت مملة للغاية حيث ظل يسرد بأسلوب رتيب تفاصيل التقدم الاقتصادي الذي تحقق في الصين خلال العقدين الماضيين، والتحديات الاقتصادية والسياسية والبيئية الهائلة التي لا تزال تواجهها.

حقيقة وضعنا في العراق أننا نُضِّيع خيرة عقولنا، وخيرة رجالنا ونسائنا، ونُضِّيع مستقبلنا في حين أن الصين لا تفعل أياً من ذلك.

بعد أن استمعت لتلك الخطبة، قلت لنفسي إنه لشيء رائع بالتأكيد أن تكون دولة ما قوة عظمى، وأن تتمكن في الوقت نفسه من التركيز بشكل شبه كامل على معالجة مشكلاتها الداخلية. أرجو ألا يفهم أحد من ذلك أنني قد أصبحت من دعاة الانعزالية. فالحقيقة هي أن أميركا لها أعداء حقيقيون في حين أن الصين ليس لها مثل هؤلاء الأعداء. وأننا مضطرون بسبب ذلك للموازنة بين دورنا الأمني على الساحة العالمية- وخصوصاً في أماكن مثل الشرق الأوسط- وبين متطلباتنا الداخلية.

عقب الحادي عشر من سبتمبر حاولنا أن نحدث تغييراً في قلب العالم العربي- الإسلامي من خلال محاولة بناء حكومة تقدمية في بغداد، ولكننا أخفقنا في ذلك لأسباب تفوق الحصر. وقد آن الأوان للاعتراف بهذه الحقيقية.

لا بد أنه قد غدا واضحاً لنا أن العراق سيتشكل على النحو الذي كان محتماً أن يتشكل عليه على الرغم من كل شيء، لأنه لم يكن لدينا في أي وقت العدد الكافي من القوات الذي يتيح لنا إمكانية تشكيل صورته على غرارنا. ببساطة لا نستطيع أن نرهن قدراً كبيراً من مواردنا، وعدداً كبيراً من قواتنا، كي نثبت للآخرين أن العراقيين سيتعلمون يوماً ما كيف يعيشون معا من دون مساعدة من أحد- أي من دون أن يتعرضوا للقمع بالهراوات على أيدي رجال صدام، ومن دون أن يعتمدوا علينا كلية في دور جليسة الأطفال من أجل الإشراف على شؤونهم.

لذلك ليس أمامنا في العراق من خيارات سوى الحصول على المساعدة من الحلفاء أو الخروج من هناك. بمعنى أنه إذا ما كان الرئيس بوش لا يزال يعتقد أن البقاء في ذلك البلد يمكن أن يحدث فارقاً، فإنه يجب في مثل تلك الحالة أن يحشد إلى جانبه بعض الحلفاء، لأن الشعب الأميركي لن يتحمل بمفرده- ولا يجب عليه أن يفعل ذلك- التكاليف الباهظة التي ستنجم عن الإصرار على أنه لا يزال من الممكن بناء شيء لائق في العراق.

وإذا لم يستطع الرئيس الحصول على مساعدة من الحلفاء، فيجب عليه في هذه الحالة أن يشرع في تنفيذ خطة للانسحاب على مراحل فوراً، لأن التكاليف التي ترتبها تلك الحرب على مواردنا وقدرتنا على التركيز على مشكلاتنا الأخرى قد تجاوزت كافة الحدود المعقولة، ولا يمكن بأي حال أن نقارن بما يمكن لنا تحقيقه في العراق من خلال الإصرار على البقاء بهذا العدد القليل للغاية من القوات ومن الأصدقاء أيضاً.

العراقيون يستطيعون تقديم إضافة هنا. فزيادة عدد القوات أدت إلى توفير المزيد من الهدوء في العراق، وهو ما يرجع لحد كبير لحقيقة أن التيار العام من سنة العراق، قد أدرك أخيراً أنه قد خسر. وأن العراقيين الموالين لـ"القاعدة"، والشيعة الراديكاليين يمثلون تهديدا له يفوق التهديد الذي يمثله الأميركيون الذين كان أفراده يوجهون الرصاص إليهم.

في اللحظة التي سنبدأ فيها المغادرة من العراق، فإن جميع العراقيين سيبدؤون في التفكير في مصالحهم. قد يقررون أنهم بحاجة للمزيد من حمامات الدماء، ولكن هناك احتمالا لا يقل عن ذلك، في أنهم سينجحون في تحقيق التوازن فيما بينهم في نهاية المطاف.

في مدينة "داليان" الجميلة حيث الشوارع الواسعة، وناطحات السحاب، والحدائق الغناء، والقرى الذكية، والجامعات، التقيت بـ"رئيس جامعة داليان للتقنية" الذي أخبرني أنه يركز جهوده على أبحاث الطاقة، وأن هناك 100 طالب على الأقل يعدون رسائل دكتوراه في هذا التخصص في الوقت الراهن- لم يكن هناك طالب واحد في هذا الفرع من خمس سنوات- وأن ذلك يتم في إطار تركيز الحكومة الصينية على تطوير البحث والابتكار التقني في مجال الطاقة على وجه التحديد. عندما سمعت منه ذلك، عادت بي الذاكرة إلى العراق الذي كنت أقوم بزيارته منذ أسبوعين، وتذكرت القصة التي حكاها لي أحد الضباط الأميركيين عن قافلته التي تعرضت لهجوم بواسطة عبوات ناسفة بدائية ولكنها نجت منه بأعجوبة، واكتشف رجاله أن هناك رجلاً يحاول الفرار من مسرح العملية فاتصل بطائرة عمودية من طراز بلاك هوك كانت قريبة من المنطقة، قامت بمطاردة ذلك الرجل الذي كان يركب دراجة وتمكنت من خلال استخدام ضغط الهواء الناتج عن مراوحها من إسقاطه عن دراجته والقبض عليه. إن هذه القصة عن استخدام مروحية بالغة التطور ثمنها 6 ملايين دولار لإسقاط رجل من فوق دراجة ترمز لعبثية وضعنا في العراق والذي عبر عنه المؤرخ اللبناني الكبير "كمال صليبي" خير تعبير عندما قال لي: "إن القوى العظمى يجب ألا تنخرط أبداً في صراعات القبائل الصغيرة". هذه هي حقيقة وضعنا في العراق: أننا نُضِّيع خيرة عقولنا، وخيرة رجالنا ونسائنا، ونُضِّيع مستقبلنا- في حين أن الصين لا تفعل أياً من ذلك.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)