مع تقرير السفير الأميركي في العراق رايان كروكر وقائد الجيش الأميركي في العراق ديفيد بترايوس بتكليف من البيت الابيض وجلسات الاستماع في الكونغرس، حاولت ادارة الرئيس بوش أن تفرض أجندتها وتوقيتها ومفاهيمها على الرأي العام الأميركي. وفرضتها الهيمنة الثقافية الأميركية على أجندات الإعلام العالمي كمزود أول للاستهلاك الإعلامي وعبر تحويل الأخبار منذ أمد بعيد إلى تسلية إخبارية: من ترقُّب «الحدث»، اي ما يصور سابقا كحدث ينبغي انتظاره، إلى بث مباشر على حساب كل شيء آخر يجري في هذا العالم، إلى تعليقات على البث المباشر. ولا تتخلف صحيفة ولا قناة تلفزيونية عن زميلاتها، كي لا تتهم بالتقصير وكي لا تخسر ولو جزءاً من سوق المستمعين الذي قد يتحول عنها... المنصة وجدت، إذاً لا معنى للتهرب من الإدلاء برأي.

أعضاء الكونغرس الذين استجوبوا السفير والآمر العسكري لم يقوموا بالاستجواب من منطلق عربي او عراقي، بل من منطلق أميركي، وهم يوجهون الاتهامات للإدارة كابحين غضبهم بهدوء مصطنع بات يميز ذاته كنبرة صوت أميركية في السياسة لسببين رئيسيين: الأول هو فشلها في تحقيق أهداف الحرب الكاذبة والفعلية. ولو نجح بوش في المهمة والأهداف نفسها لما كانت هنالك مشكلة، فهؤلاء النواب ليسوا وطنيين عراقيين، وليسوا قوميين عرباً، وليسوا حتى ليبراليين كونيين. فهم يتعايشون مع نظام استبدادي في دولة أجنبية ما دام قصة نجاح، أي ما دام ناجحاً في خدمة مصالحه ومصالح اميركا. بوش يحاسَب بموجب الأهداف التي وضعها لنفسه. ولو جاءهم آمر قوات الاحتلال الى الكونغرس رابحا ولو بعدد أكبر من الجرائم ضد المدنيين لما كانت هنالك مشكلة. لا يوجه في الكونغرس نقد ضد مبدأ الاحتلال ولا على هدم الكيان العراقي بمعول بريمر ورؤسائه ومرؤوسيه، بل نجد نقدا لسياسة بوش لأنها فشلت، وقد فشلت بالمعايير الأميركية. الأمر الثاني الذي يهم اعضاء الكونغرس هو الدقائق السبع التي سوف تسلط فيها الكاميرا على وجوههم وهم يتكلمون ويوبخون ببلاغة وإيجاز سياسة غير شعبية لا يتحمل الموظفان المسؤولية عنها. اهتم كل عضو كونغرس ان يوضح ذلك في مقدمته، كما اهتم أن يحيي رجال ونساء الجيش على شجاعتهم.

لقد بدأ النقد الذاتي في الصحافة الأميركية على دورها في التعبئة للحرب على العراق، وتجده في مقالات صحافيين كثيرين ينتقدون دور الصحافة مباشرة، وقد فعلت ذلك «نيويورك تايمز» إذ اعتذرت للقراء. ولكن الكونغرس ينسى ويتناسى أنه أيد الحرب حين إعلانها بنسب أعلى من تأييده حرب فيتنام في بدايتها.

لعبة الاستعراض البرلماني والتقارير وغيرها هي لعبة سياسية أميركية داخلية من قمة رأسها الى أخمص قدميها. وبالنسبة الى معارض السياسة الاميركية في العراق فمعيار الموقف ليس نجاحها أو فشلها في تحقيق الأهداف، بل الأهداف ذاتها هي المشكلة .

ومنذ ان أدرك بوش درجة تورطه بدأ في عملية تمرير فترة رئاسته في العراق بإشغال الرأي العام الاميركي بمواعيد زمنية وهمية وأحداث قادمة يتطلع لها الرأي العام الأميركي وتفرض على الرأي العام في المنطقة العربية أيضا: نقل السلطة في العراق، الانتخابات، تقرير بيكر - هاملتون، زيادة عدد القوات، مؤتمر الدول المجاورة، تقرير كروكر - بترايوس...الخ. وكلها مواعيد وهمية يتطلع الناس إليها كأنها تواريخ فاصلة سيختلف ما بعدها عما قبلها، ولكن الخيبة بنيوية. ولا يحدث «تقدم» طبعاً، (لا يوجد اصلا اتفاق على سؤال: تقدم بماذا؟) وكل ما يجري هو زيادة التورط الأميركي، وسير العراق بخطوات أسرع نحو التفكك... هذا هو الحدث العظيم الوحيد الحاصل فعلا. وفرض كل ما جرى في الكونغرس والمهرجان الإعلامي من حوله على العرب، أي فرض التعامل المشهدي مع بترايوس كجنرال و «جنتلمان» وليس كمجرم حرب، وتعاملنا من حيث ندري ولا ندري مع أعضاء الكونغرس كحكماء محايدين وحازمين يطمس الفرق بين قوات الاحتلال وقوات حفظ السلام، وبين الحرب والتفاهم وسوء التفاهم مع أميركا.

ولو هبط كائن فضائي في واشنطن وجلس يستمع إلى جلسات الكونغرس لحسب ان العراق كان كيانا تمزقه الحرب الأهلية الطائفية عندما قررت أميركا ارسال قوات حفظ السلام إليه لتفصل بين الطرفين، وأن النقاش يدور في الكونغرس حول النجاح في المهمة من عدمه. نحن نعرف تاريخ الاحتلال وتفكيك دولة العراق بالحرب العدوانية بعد حصار تجويعي دام ثمانية عشر عاما، ولكن المواطن الأميركي المسكين هو فعلا أقرب إلى كائن فضائي.

ومع ذلك، ورغم كل ذلك، لم يتضمن المشهد مفاجآت. «إنه الأسبوع الذي لن يحدث فيه شيء» كما توقع أحد المعلقين الأميركيين. وفعلا لم يحدث شيء. توقع الجميع ان يكون تقرير الموظفين (الديبلوماسي والعسكري) تقريرا تجميليا للسياسات الأميركية فيبرر زيادة عدد القوات ويثبت نجاعة استراتيجية المشغِّل، جورج بوش، في تقليص عدد حالات العنف الطائفي وعدد عمليات المقاومة ضد جيش الاحتلال. وهذا ما حصل فعلا.

إنه بترايوس نفسه الذي كتب كجنرال من العراق مقالا في «واشنطن بوست» يوم 26 ايلول (سبتمبر) 2004 في اوج العنف الطائفي وعمليات المقاومة التي كانت تجتاح العراق، يدافع فيه عن سياسة بوش ويرى فيه ضوءاً في آخر النفق ويتوقع تغييراً حقيقياً في السنة التالية اي في 2005.

هنالك موظفون... وهنالك موظفون. فمراقب الدولة الاميركي، أو مكتب المساءلة المستقل والملتزم قانونا أمام الكونغرس قدم تقريرا أكثر استقلالية لأنه يشكل سلطة مستقلة ولو داخل المؤسسة نفسها. لم يحظ التقرير بعظيم اهتمام. وكانت العاصفة الإعلامية والتغطية والدراما والحشد الصحافي والسحنات الجدية على الكراسي الجلدية من نصيب التقرير الأقل أهمية والذي جاء بتكليف من بوش.

لا نعرف كيف اختار التقرير احصائياته وأرقامه، ولا كيف قرر الفرق بين عنف جنائي وطائفي، ولا نعرف ايضا لماذا اختيرت هذه الأشهر تحديدا لمقارنات تظهر انخفاضا في معدلات العنف وبالتالي نجاحا لسياسة التدخل العسكري. ولكننا نعرف أنه فعل ذلك برسوم بيانية وجمل تحمل الف معنى وكليشيهات، ولم يقتنع أحد. لم يقتنع أحد ان تقليص العنف بتطويق مدن مثل بعقوبة والفالوجة والتنكيل بسكانهما وانخفاض مستويات المقاومة طالما بقي الجيش مركزا من حولها هو إنجاز استراتيجي. الجميع يعرف أن العنف نفسه سيعود مضاعفا حال مغادرة الجيش أو إرخاء قبضته. وبالعكس ربما يزداد العنف نتيجة نزعات ثأرية لدى المدنيين الذين نكل بهم. ولم يصدق احد ان انخفاض العنف في بغداد ناجم عن انخفاض الاحتراب الطائفي. فمن السهل إثبات ان العنف انخفض لأن حملات التطهير العرقي من قبل ميليشيات المهدي وبدر والمدعومة من الشرطة والأمن العراقي نجحت في تحويل بغداد من مدينة 63 في المئة من سكانها من السنة الى مدينة 75 في المئة من سكانها من الشيعة. وهذه ارقام السناتور جون كيري، وتدعمها تقارير العدد الأخير من «نيوزويك» حول ما يجري في بغداد. وهذا يعني ان العنف انخفض بعد ان حقق مراده فقل الاحتكاك الطائفي نتيجة لتحقق هيمنةِ طائفةٍ بعينها. كما لم يصدق أحد أن ميل عشائر الانبار لمقاتلة «القاعدة» الناجم عن الممارسات الطالبانية الاخيرة التي قام بها هذا التنظيم ضدهم وضد ابنائهم وبناتهم، هو انجاز للاستراتيجية العسكرية الأميركية، إذ يمكن قراءته كنتيجة لفشل الاستراتيجية الاميركية واضطرار هذه القبائل للدفاع عن نفسها أمام همجية وتجبر «القاعدة». وما مفاخرة بترايوس وكروكر بهذا «الانجاز» إلا تعبير عن عمق أزمة الاحتلال وعن حجم التورط الأميركي في الفخ العراقي.

إنه تكريس للخطيئة نفسها التي بدأ بها الاحتلال سفره غير الميمون في العراق على السكة الخطأ. لقد بدأ بتقسيم البلد طائفيا حتى وصلنا الى الوضع البائس الذي بات فيه العلماني يحصي نسب الشيعة والسنة ببغداد بعد تطهير طائفي. ثم عندما أدت الطائفية إلى متاجرة الاصولية الدموية بها راهن الاحتلال على غضب العشائر وسلحها، ومستقبلا قد تنقلب العشائر عليه او ربما على عشائر أخرى. نجح الاحتلال في هدم بنيان دولة، وهو لا يعيد بناءها بل يمعن في التفتيت.

في المشهد البرلماني الحي والمباشر ظهرت اميركا كما هي. دولة عظمى دخلت الحرب بعدة ولكن من غير إعداد، وبتآمر ولكن من دون خطة لإدارة البلد. شنت أميركا العدوان عبر نشر الأكاذيب وإبعاد الغضب الشعبي على 11 ايلول من «القاعدة» وتوجيهه بتآمر ودهاء نحو العراق. وهي اميركا نفسها التي أدركت أنها كانت الحرب الخطأ، ولكن ليس لديها خطة للخروج من العراق. إنها أميركا التي أدركت ان الحرب الخاطئة لأنها حرب فاشلة. خروجها المفاجئ سيعرض حلفاءها وصدقيتها ومنطقة الخليج برمتها للخطر، أما بقاؤها في العراق فسوف يمدد زمن النزيف المستمر لها وللمنطقة بلا نهاية. ليس لدى أميركا خطة للخروج. ومن يدعون الى انسحاب مبكر يراهنون على ان مغادرة من هذا النوع ستضع القيادات العراقية أمام مسؤولياتها وستضطرها الى مصالحة وطنية، وهذه طبعا مجازفة. وتخشى اميركا ليس فقط من الفوضى والحرب الاهلية على نمط رواندا والكونغو، وكلها مجازر رهيبة كبرى تمت بسلاح خفيف، بل ايضا من فراغ سياسي تملأه دول إقليمية مثل إيران وسورية.

كانت الخطيئة الكبرى وما زالت هي إعلان الحرب على العراق واحتلاله من دون سبب للحرب. ثم كانت الخطيئة الثانية التي وضعت مساراً للأولى في التعامل مع العراق ككيان طائفي تحكمه أقلية سنية تضطهد اكثرية شيعية، وكانت الخطيئة الثالثة تفكيك الدولة والجيش وفسح المجال لميليشيات طائفية للتلبس بلبوس الشرطة والأجهزة الأمنية... في حين كان العراق دولة، وكان المضطهَدون والمضطهدون في العراق من السنة والشيعة. لقد وضعت هذه الخطايا الاحتلال والتطور السياسي في العراق بما فيه الدستور وبناء أجهزة الامن وغيرها على سكة تقود نحو الدمار. حتى المعايير والأدلة التي تحاسَب الحكومة العراقية بموجبها في الكونغرس هي تعبير عن توجه طائفي للعراق. خذ مثلا مشاركة كل إقليم الاقاليمَ الأخرى بثروته النفطية. منذ متى تتبع الثروة النفطية أصلا لإقليم؟ يطرح المعيار الذي تحاسب عليه حكومة نوري المالكي في توزيع ثروة العراق وكأن إقليماً بعينه يملك النفط ويتكرم بجزء منه على الآخرين... في حين يتلخص توجه بناة الدول بأن هذه ثروة العراق وشعب العراق. لقد أدخل الاحتلال فيروس الطائفية أو سمح له بالتفشي بعد ان أزال الموانع كافة من طريقه. ولن ينجو من عدواه مخلوق. ولن ينقذ الأميركيون العراقيين من هذه العدوى. فقط قيادات عراقية وطنية جدية وقادرة على التفاهم مع المقاومة قادرة على إنقاذ بلدها إذا توفرت لديها الإرادة والقوة.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)