سيدي المواطن، أعتقد أن ما يجري بينك وبين الحكومة الحالية، من خلاف على مسألة الدعم وإشكالية الكهرباء والماء والسكن والأسعار، ناجم عن سوء تفاهم بينكما… ليس إلا. وأدعو الرب القدير أن يمكّنني من التوسط بينكما لإحلال التفاهم السليم وإعادة الأمور إلى جادة اللحمة الاجتماعية الوطنية، لنتمكن جميعا من التصدي لأطماع الخارج التي رافقت ولادتنا منذ بداية التاريخ، والتي ستبقى تهددنا إلى يوم الدين. فهذا قدرنا المكتوب على جبيننا: نحن الطيبون وهم الأشرار الطامعون وليس أمامنا سوى "المقاومة الشاملة"، حسب تعبير بيان أحد مرشحي مجلس الشعب في الانتخابات الأخيرة.

سيدي المواطن، تصر الحكومات السورية منذ بداية عهد "التحرر" أنها لم تسلبك حقوقك يوماً. وتدّعي أنك عندما جئت إليها كنت منتوف الحقوق أصلا، وأنك أتيتها صاغرا مستجيرا من علمانية المستعمر ومن أصولية الإقطاعي. لهذا فإنها ترى، منسجمة مع نفسها، أنه ليس لك عليها ما تدعيه من حقوق: فأنت واهم بحقك المسلوب بمياه الشرب أو بالكهرباء أو بالطبابة والتعليم والسكن… الخ. إذ تؤكد الحكومة أنك حصلت على هذه الحقوق كمنح قدمتها لك السلطات من قبيل القرض والتسليف، ومع أنها وصلتك أحيانا تحت تسمية هبة أو مكرمة فهذا لا يغير من طبيعة ملكيتها، التي تعود بمجملها للحكومة: تستعيدها متى تشاء وتتصرف بها حسبما تشاء وتوزعها على من تشاء.

سيدي المواطن، ترى الحكومة أنك مشوش الفهم ومقلوبه، وأن الأمر على عكس ما تراه، فهي التي تمتلك عليك حقوقا، وتلومك على التقصير بالشكر والعرفان وسداد واجباتك تجاهها. فهي تزعم أن التعاقد بينكما قام على أساس أن تعطيك بمقدار حاجتها إليك، مشفوعا بشرط عدم مطالبتك بحقوق من نوع آخر (حقوق كافرة)، كحقك في المواطنة وتكافؤ الفرص، أو حقك في التعبير عن رأيك، أو حقك في قضاء عادل، أو حقك في امتلاك صحافة حرة، أو حقك في التدخل في سياسات الحكومة، أو حقك في اختيار ممثليك إلى مجلس الشعب أو المجالس المحلية، أو حقك في تنظيم نقابات مهنية حرة ومستقلة. لكنك بدأت تخل بهذا الشرط من خلال مطالبتك، أحيانا، بمثل هذه الحقوق "الغربية"، التي تعتبرها الحكومة: خيانة لها؛ للدولة؛ للوطن؛ وهي تجزم بعدم وجود مثل هذه الحقوق في أي مكان على وجه الأرض، لا الآن ولا سابقا ولا لاحقا؛ وتدعي امتلاك أدلة ثابتة وعلمية مدعومة بشهادات ثقة تثبت ذلك. وأن الغرب الاستعماري يبث هذه الأكاذيب الواهية صوب فضائنا بقصد زعزعة وحدتنا الوطنية القائمة كالبنيان المرصوص.

سيدي المواطن، بات واضحا الآن أن جذر خلافكما يتركز على من هو الأول والأصل ومن هو التالي واللاحق بينكما. فالحكومة تعتبر أنها هي الأصل وأنك جئت لاحقا لها زمانيا وشرطيا وتاريخيا. وأنها لطالما دعتك إلى الاحتكام إلى التاريخ الذي كتبته هي، وإلى المنطق الاجتماعي الذي صاغته بأقلام ساستها ومخططيها ومثقفيها؛ لكنك، حسب قولها، تجاهلت دوما هذه المراجع التي تبيّن أنك يا سيدي لم تكن سوى بدويا أو ريفيا أو فقيرا، ليس لديه الماء أو الكهرباء أو الطرقات أو… أو…، فجاءت الحكومة (كل الحكومات) وفرعنت نفسها أمَّارة نهَّاية لتنجز "الوطن"، بل إنها وضعت هذه الإنجازات التي لم تكن سيادتك تعرفها ولا تحلم بها أساسا تحت تصرفك: أوصلت لك الماء النقي إلى مطبخك وحمامك، وأنارت بيتك باختراع شيطاني اسمه الكهرباء لم تكن سمعت عنه، وكي لا أطيل عليك بعرض ما تذكره أنت نفسك من أحوالك السابقة وما تعرفه عن أوضاعك الراهنة، فإن الحكومة تعتبر، استنادا إلى ذلك، أنها هي الأصل وأنت اللاحق. فأتيت أنت الآن مشككا بأن من قام بهذه الإنجازات هو الشعب السوري: عماله ومثقفيه و… و… وقياداته. أي أنك تعتبرها مشمولة فيك وليس العكس، بل وزدت على ذلك حين بدأت بالتلميح إلى أن مال الدولة هو مالك لأنه جزء من مالك العام. هل وصلتك الفكرة سيدي المواطن.

أعرف ردك سيدي على مثل هذا المنطق، بأنك لا تنكر ما كانت عليه أحوالك الاجتماعية والسياسية قبل "عهد التحرر"، إلا أنك ترفض أن تنقلب الأدوار أو تتمادى الحكومة في فهما لمكانتها ومكانتك. بل إني أوافقك وأدعمك في كل ما تدعيه وما تقوله، فأنت الأصل: الماء ماؤك، والهواء ملكك، والأرض وثرواتها الباطنية والظاهرة هي إرثك، والمال العام الذي يموّل الإنجازات هو مالك وجناك، وأن الحكومة هي التي استولت عليه حين خوّلت نفسها القيام بتقسيمه وتوزيعه بعدل ومساواة، وأنها تمادت خارج حيّزها ودورها، وأن عليها أن تطلعك على كل فاصلة وعروة بكل شفافية فيما تفعله أو تنوي القيام به، وأنها المسؤولة الأولى والأخيرة عن أحوال عيشك البائسة. وأنا معك بأن لك كامل الحق باختيار الحكومة التي تراها تفي بطموحاتك بعيش كريم، وتصون لك جميع حقوقك، التي تقررها أنت وتصوغها بما يتناسب مع مكانتك بين الشعوب الأخرى.

لكني أختلف معك حين تعتبر نفسك مقداما، وأنا أراك خنوعاً.