ذات يوم بعيد، وفي جامعة باريس الحادية عشرة، اجتاز الطالب السوري محمد غفر بتفوق امتحانات القسم النظري في دبلوم الدراسات المعمقة للتخصص بالوقود النووي. وأسرع الشاب الموفد ليخبر أهله أنه سيحقق غداً حلم حياته بدخول بهو المفاعل النووي في منطقة ساكليه جنوب باريس، لإجراء التجارب المقررة في البرنامج. ودخل محمد غفر وزملاؤه البهو، وارتدوا اللباس الواقي من الشعاع، وحُشروا في ركن ليرقبوا الألوان المتولدة في بحيرة مياه تبريد المفاعل.

يكتب محمد غفر بعد دهر في سيرته «أقاليم منسية» أن خمسة من رجال الشرطة تقدموا إليه أمام المئات من العلماء والفنيين، وقرأ عليه شرطي بياناً صادراً للتو عن وزارة الداخلية الفرنسية: «على رغم تميز السيد محمد غفر، السوري الجنسية، بسلوك جيد وسمعة علمية مرموقة، إلا أنه يحظّر عليه دخول أي منشأة نووية بسبب وجود اسم بلاده على القائمة الحمراء». وهكذا اقتيد الطالب إلى الخارج وهو يبكي ويهتف بحياة سورية وضد الاستعمار الفرنسي.

بيد أن غفر تابع الدرس والتفوق حتى اكتشف ظاهرة جديدة تتعلق بسلوك أحد العناصر النووية، فسمحت له إدارة المفاعل ذاته بالولوج إليه متى شاء، وعوّضته عما سلف من الطرد معنوياً ومادياً، وكانت تسعة أشهر قد مضت على الطالب الموفد، لم يستلم خلالها المنحة. ومثل كثيرين من السلف، ممن مضوا من العلم أو سواه من السبل غير الأدبية إلى الكتابة الإبداعية والفكرية، فعل محمد غفر. ولعل الإشارة العجلى تكفي هنا إلى يوسف إدريس ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف الذين قدموا إلى الرواية من الطب والفلسفة والاقتصاد، على التوالي. بل ها هو اليمني حبيب عبدالرب سروري يأتي الرواية قادماً من التخصص العالي في أرقى المعاهد الفرنسية في علوم الكومبيوتر.

هكذا كان لمحمد غفر في الفلسفة كتابه «دراسات عربية في فلسفة العلوم» ودراساته بالانكليزية في مجلات دولية، كما كان له كتابه الذي سماه (على الغلاف) رواية: «أقاليم منسية». ومع هذا الوسم يتجدد النزاع بين تصنيف أو تجنيس كاتب لكتابته، وبين ما قد يخلخل أو ينقض ذلك، من غياب أو قصور المتحقق في الكتابة المعنية من مقومات الجنس الأدبي الذي نُسبتْ إليه على يد الكاتب. فما يروم إليه الكاتب أمر، وما يتحقق من تلك المقومات في حدها الأدنى، أمر، مهما يكن من تجددها أو المروق عليها أو الخلاف فيها، كما هو شأن الرواية كفنّ بلا تخوم، لا يفتأ يشتبك بالفنون والمعارف ويخرج من جلده.

إزاء ذلك تقوم المسافة بين الرواية والسيرة، وبين الرواية السيرية والسيرة الروائية، فأين هو موقع «أقاليم منسية» في تلك المسافة؟

يحدد محمد غفر منذ البداية رافعة كتابته بالذاكرة التي تؤججها «البؤرة الطفولية»، فإذا بها تنهب الزمن المترامي منذ الولادة والنشأة في قرية «المشيرفة» إلى الحصول على الدكتوراه، فضلاً عما يتناثر من الفترة التالية، حيث كانت الكتابة. والكاتب ينعت هذه الفترة بالآونة الأخيرة، ويجعلها زمناً وأزمنة، فيها «نعتكف معابد الصمت»، وفيها تقوم تحولات البطل، حيث باتت انزلاقاته في الأجواء المخملية سمة من سماتها.

من هذه «الأزمنة الحربائية» يعود الكاتب إلى الماضي، فيتطوح بين الذكريات التي وشمته، وجلّها يتعلق بقريته التي تسكنه أنّى شرّق وغرّب في دمشق وباريس وسان فرانسيسكو وبراغ وبودابست ولندن وسان بطرسبورع وكوالالامبور واسطمبول ولشبونة وروما ومدريد. وسوف يرتكب فعل الوشم في فضاء القرية وفي ما يرسم الكاتب من الشخصيات. أما الفضاء فتسربله الرومنطيقية التي تكون اللغة، فإذا بالمشيرفة «ثريا مدلاة من كبد السماء»، وبجوارها مشقيتا - قرية الروائي الراحل هاني الراهب ومثواه الأخير - التي «تحكّ وجنتي السماء وتعفّر ما تشتهي من النجوم»... أما الشخصيات فتتدافر بين عابر ومقيم. ومن هذا المقيم تنهض شخصيات روائية بحق كما رسمها الكاتب، منها الأب المعلم الشيوعي، والنجار فارس الذي يلهو بالصمت وتفور من جوفه الحكمة. كذلك شخصية «أبو علي المعمرجي» الذي يضبط بعين واحدة نهوض الجدار الحجري. وها هو محمد غفر إذ يستعيده يراه محقاً في فيزياء حركة الأجفان. ولئن كان الكاتب يلحّ على أن شخصياته هي من البشر العاديّين - الشيخ والخياط واللص والمرأة التي تلد وهي تحتطب والساحر المغربي ومن بتر التعذيب خنصره الأيمن و... - ففي الشخصيات سوى أولاء كثير، مثل الدكتور عبدالرحمن هلال الذي اغتاله الإخوان المسلمون في اللاذقية أثناء صراعهم المسلح مع السلطة، ومثل ليلى التي تخرجت من دار المعلمات وانتسبت إلى الحزب الشيوعي منذ نصف قرن، وتزوجت في موسكو من عراقي كردي ثم ضيعتهما الدروب.

لعل «أقاليم منسية» ليست رواية، وليست رواية سيرية، بل سيرة تتغيّا الرواية، فيترجّح تصنيفها بين السيرة والسيرة الروائية. وهذا ما يتأكد من خلال ما كتبه محمد غفر في أقاليم المشيرفة وأقاليم الوطن وأقاليم العالم وأقاليم الماضي، كما سيفصل ما عنونه بـ «أقاليم منسية». فمنذ البداية يكتب الكاتب «وما سأفرشه من حكايا عبر هذا الكتاب يخرج عن المألوف من حيث دفع الأحداث والحبكة، فأنا لا أعرف شيئاً عن هذا». وبمعزل عن هذا الطموح للخروج، وهو ما لم يتأكد، ها هو الكاتب يصنف بالكتاب ما صنفه برواية. وسيعود إلى ذلك حيث يقول بعد لأي: «لا بد من أن هذا الكتاب تعوزه الحوارات وتدفق الأحداث والمونولوجات التي تقطر إثارة». ومن المعلوم أن الرواية العربية قد ناجزت مفهوم (الكتاب) كما تبدى في رواية صلاح الدين بوجاه (النخاس) أو في رواية واسيني الأعرج (كتاب الأمير) وسواهما. لكن مثل هذه المناجزة، بزعزعتها لمفهوم الرواية أو بتجذّرها في المفهوم التراثي للكتاب، عزّزت روائية الرواية. أما في «أقاليم منسية» فيبدو ان حيرة السيرة الطامحة للرواية، لن تفتأ تبحث عن شرعيتها. وعبر ذلك تراها مرة تتظاهر بجهل مقومات الرواية، ومرة تتعالم بها، ومرة تتذرع بأمثولة هي «داغستان بلدي» لرسول حمزاتوف، والتي يراها الكاتب «رائعة من روائع الأدب العالمي على رغم افتقارها لكل شروط التكوين الروائي والقصصي. فاستدراك المخزون إنما يكون هكذا بسيطاً كالماء». ولكن ماذا لو كانت «داغستان بلدي» تتوافر على قدر أو أكبر من تلك الشروط، وهي كذلك بحق؟

بين هذا الجهل - التعالم والاندلاق والخياطة غرزة غــرزة، تــدع القـــراءة للكاتـــب أن يشير إلى كتابته، بينما تتعلق بتشبيهه هو لمحاولته الأولى «أقاليم منسية» بمحاولته الأولى في الخامسة من عمره لقطع المسافة ما بين ضفتي السد الترابي المتاخم لقريته، إذ بدا له عندما بلغ الضفة الثانية كأنما «دمجت الأرض في قرني عنزتنا الشامية»، على أن القرنين بالنسبة للقراءة هما الرواية والسيرة. ولعلهما يندمجان على يد هذا الذي قـــال فيـه عام 1955 أستاذ مادة الوقود النووي، في يوم الدفاع عن أطروحته للدكتوراه على مدرج الفيزياء النووية في إحدى ضواحي باريس: «محمد غفر يستحق وبجدارة درجة الدكتوراه بدرجة مشرّف جداً، ونقترح تسميته سفيراً لفرنسا في العلوم النووية واللغة الفرنسية».

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)