في عملية الاتصال هناك "وقائع مهملة" تظهر و كأنها على هامش العملية السياسية، لكنها ضمن الصورة العامة تبدو أكثر ترابطا مع باقي الأحداث، فمسألة "الاشتباه النووي" التي طفت على سطح الأعلام في الأيام القليلة الماضية، ليست بعيدة عن "جدران العزل" التي أصبحت أكثر آلية مثيرة للجدل في الشرق الأوسط.

في عملية "الاشتباه" هناك "مشروع" عزل معنوي ربما شهدنا نماذج له في عدد من دول العالم كان آخره المثال الكوري، بينما تشكل "الجدران العازلة" التحدي الفيزيائي المنتشر اليوم من بغداد إلى فلسطين، "فالجدار في العراق، أو مشروع الجدار على الحدود العراقية – السعودية، أو جدرا الفصل العنصري في فلسطين، تملك قاسم واحد هو تأكيد "العزل" بشكل مادي عندما تفشل الطرق المعنوية.

والغريب أن هذه التجارب تأتي بعد أكثر من عقد ونصف على انهيار جدار برلين الذي ميز حقبة خاصة، وكان فاتحة الحديث عن "العولمة" بشكل جديد، لكن هذه الجدارن الاسمنتية التي بدأتها قوات الاحتلال الأمريكي بـ"المنطقة الخضراء" تسعى لتكريس واقع ثقافي وسياسي في نفس الوقت، فهي تحاول أن تقدم "مسافة" فاصلة عن الآخر، مادية عبر إبعاد "المارقين" إلى خارج الأسوار، أو معنوية عندما يصبح "الاشتباه" سيد الموقف، فيدخل "الحذر" بدلا من التعامل عبر الثقة المتبادلة.

عمليا فإن "العزل" الداخلي لا ينفصل عن آليات السياسة الخارجية التي تسعى لإدخال الشك في أي اتصال دولي، فإذا كان المنطق الذي يتم التعامل معه اليوم هو إقامة "الجدران" فإنه في نفس الوقت يتم تكريسه بطروحات الفيدرالية، وفي نفس الوقت "تُزرع" إشارات الاستفهام في السياسة الدولية لمجرد الاشتباه.

هذه الصورة تظهر بوضوح أمام سورية منذ بداية الاحتلال، وربما كان المطلوب من دمشق بعد سقوط بغداد "تغيير سلوكها" باتجاه التعامل مع عمليات العزل، بحيث تقبل جدارا على حدودها الشرقية، وقوات دولية على حدودها الغربية مع لبنان، بينما كانت سورية تعمل على كسر هذا المعتقد ابتداء من إزالة الألغام على حدودها مع تركية، ثم فتح حدودها باتجاه العراقيين الفارين من الحرب.

هذا السلوك المعاكس اجتماعيا على الأقل لما كان مطلوب، أو على الأقل لما ظهر من آليات سياسية في العراق، يتم التعامل معه اليوم بشكل آخر، ففي لبنان هناك "حملات" إعلامية حول "منافذ" الحدود السورية، بينما جاءت التقارير الأخيرة في مسألة الاشتباه النووي لتتحدث عن "علماء عراقيين" و "خبراء كوريين" والأهم أن "المنشأة" التي يدعي الإعلام أنها كانت هدف الاعتداء الإسرائيلي هي باتجاه الحدود العراقية، وقريبة أيضا من سورية... فهل يفتح هذا الأمر سؤالا حول صورة سورية بعد سنوات الاحتلال الأمريكي للعراق؟!!

السؤال اليوم هو أن مسألة العزل السياسي لم تعد على ما يبدو فاعلة، ولا تشكل أيضا هاجسا بالنسبة للإدارة الأمريكية، فهذا الموضوع يجب أن ينتقل إلى مجالات أخرى اجتماعية وثقافية حتى يكرس سياسة أمريكية بقيت عائمة وقادرة على إثارة العنف لكنها عاجزة عن خلق واقع يناسبها.