اانقشعت زوابع التقارير الأمريكية المتوالية المقدمة للكونغرس حول الورطة الأمريكية في العراق، ليقول الرئيس جورج بوش الابن كلمته الأخيرة، أو هي كلمته الأولى التي يعيد تكرارها وظلت على الدوام هي هي. انقشعت لصالح آخرها، أي تقرير بتراوس-كروكر، الذي كان عليه أن يبتلع، وفق ما أرادته الإدارة وماكينتها الإعلامية والدعاوية الهائلة، ما سبقه من تقارير، وبالتالي يهيئ الفرصة للرئيس لتكرار كلمته الأولى والأخيرة هاته، وليسمعها من جديد من به صمم، أو لكل من يزعم أن استهدافا ته من حربه على العراق قد شابها الفشل أو جانبها النجاح، قال لهؤلاء:

"أنهم على خطأ، الوقت لم يفت لتوجيه ضربه إلى القاعدة... ودفع الديمقراطية، والوقت لم يتأخر لدعم جنودنا في معركة يمكنهم الفوز فيها"!

إذن النجاح بالنسبة له لازال ممكناً، وعليه فالاحتلال للعراق سوف يتواصل، لأن المهمة الخيرية التي ذهب من أجلها إلى بلاد الرافدين لم تنجز بعد على الوجه الأكمل، لاسيما وأن حلفائه من القادة العراقيين، أيضاً كما قال، "يدركون أنهم يحتاجون من أجل أن ينجحوا إلى التزام سياسي واقتصادي وأمني من الولايات المتحدة يمتد إلى ما بعد رئاستي".

ما بعد رئاسته... إذن، أمريكا باقية في العراق، حتى بعد ذهاب بوش من البيت الأبيض، وهي سوف تواصل من بعده تلمس سبل نجاح إستراتيجيته، أو عليها أن تحاول تحقيق ما يمكن من استهدافا ته من غزوه للعراق... هل سمعنا كلاماً أمريكياً في الكونغرس موالاة ومعارضة يتناقض في جوهره مع هذا؟!

لنعد إلى نقاشات الكونغرس إبان استماع اللجنة المختصة لتقرير بتراوس-كروكر، ولنلاحظ أن كل من انتقد أو اعترض، اقتصر ذلك الانتقاد والاعتراض منه على الفشل وليس على مبدأ أو استهدافات الغزو، أو على نتائجه بالنسبة للعراقيين، أو ما فعله الغزاة بالعراق، أو ما ارتكبوه ولازالوا يرتكبونه فيه... كانوا، بلا استثناء، جمهوريين و ديمقراطيين، ضد الخسارة في العراق وليس ضد الربح المتأتي من نجاح الغزو... كانت معايير هؤلاء المنتقدين والمعترضين أمريكية بحتة. جميعهم أثنوا على بطولات الجند وكالوا المدبح للجنرال صاحب التقرير والثناء لمجهودات السفير، وتناسوا جرائم الحرب التي رافقت ولازمت الغزو أو نجمت عن بطش الاحتلال، ونظروا لجنودهم نظرتهم لأبطالهم الذين ذهبوا في مهمة تطوعية خيرية، لكنها عند البعض منهم للأسف مهمة لم تكلل بالنجاح، وهنا تكمن مسؤولية الرئيس و مصدر الخلاف مع الإدارة لا غير... أي أنهم لم يكونوا موضوعياً ضد إستراتيجية بوش وإنما هم ضد فشلها. وبالتالي لم يلتفتوا إلى ما فعلته هذه الإستراتيجية بالدولة العراقية التي أصبحت في خبر كان.

كان تقرير بتراوس-كروكر في جوهره ووظيفته هو تماماً ما أراده بوش، وعليه لم يتأخر في تبني ما أوصى به التقرير: خفض محدود للقوات بحلول منتصف العام المقبل، والمزيد منه مستقبلاً مشروط أو مرتبط بتحقيق المزيد من التقدم على الأرض. قال بوش:

"بسبب مقدار النجاح الذي نراه في العراق، يمكننا رؤية الجنود يعودون إلى الوطن". فالمعادلة عنده، في هذه الحالة، هي "كلما نجحنا أكثر كلما أمكن لقوات أمريكية أكثر أن تعود إلى الوطن". بلغة أخرى سنحتفظ بالقوات المحتلة من حيث العدد هناك وفق الضرورات وحيث يلزم بقائها، أو سنحاول أن نجعل الاحتلال أقل كلفة، وكل ذلك بما لا يمس مبدأ البقاء الاستراتيجي الذي ذهبت من أجله إلى هناك، والذريعة جاهزة لدى بوش والإدارة، ومن يأتي بعده إلى البيت الأبيض:

حلفاؤنا من قادة عراق ما بعد الاحتلال "طلبوا علاقة دائمة مع أمريكا، ونحن مستعدون للبدء ببناء هذه العلاقة بطريقة تحمي مصالحنا في المنطقة وتتطلب عدداً أقل من الجنود"!

... وهذا البقاء في العراق، هو أيضاً، مرتبط بإستراتيجية أشمل اختصرها بوش ب"مواجهة القاعدة، وإيران، والعمل من أجل السلام في الأراضي المقدسة". أي أنه ربط ذلك بمحاربة عدوه الكوني المفضل المدعو "الإرهاب"، الذي يطيب له أن يختصره تارةً في القاعدة، و أخرى في الدول المارقة التي منها إيران، ودائماً من يقاوم الاحتلال، ثم تابو أمن وسلام إسرائيل.

إذن، ما الذي تغيّر، قبل وبعد سيل التقارير المعالجة للورطة العراقية والمتلمسة سبل الخروج منها؟!

الجواب لا شيء!

هذا بعض ما سبق وأن قالته وزيرة الخارجية كونداليسا رايس، التي يزعجها أن "العراق له جيران مشاغبون"، لا يسهمون مع المحتلين في تحقيق ما تدعوه هي مصالحة في العراق تضمن التفرغ لما تدعوه "المرحلة الانتقالية في الشرق الأوسط... ومواجهة الإرهاب والعدوان الإيراني انطلاقاً من العراق، بالتعاون مع الحلفاء"!

إنها هنا تؤكد على ذات الإستراتيجية، بل وتعيدنا إلى شعار الشرق الأوسط الجديد، لذا تقول:

علينا "أن ندعم المكاسب التي حققناها... وأن نبدأ في خفض عدد القوات الأمريكية، والانتقال إلى مسؤوليات أخرى، مثل استقرار العراق". وهذه أمور مرتبطة عندها بالمعادلة التالية:

"عندما ننجح في الحرب، فإننا سنجعل العراق أكثر استقراراً، وهذا سيجعل الشرق الأوسط أكثر استقراراً أيضاً، مما سيجعل أمريكا كذلك أكثر أمنا"!

سمعنا مثل هذا الكلام كثيراً... ولا داعي للقول أنهم لم ينجحوا في العراق إلا في ثلاث:

هدم كافة الأسس والركائز التي تقوم عليها الدولة العراقية، ونهب النفط، والعبث في وحدة النسيج الاجتماعي العراقي، عندما أذكوا روح الطائفية وأيقظوها من سباتها وغذّوها بمكائدهم منذ أول يوم وطئت فيه جنازير الدبابات الغازية عاصمة الرشيد... ويمكن إضافة مأثرة أمريكية رابعة هي، هذه المذبحة الدموية المستمرة تحت رعايتهم والتي قد لا تتوقف قبل الذهاب بكل ما يرمز إلى الكيان العراقي... و لن تتوقف ما داموا هم موجودين هناك...

لعل ألعوبة، أو معادلة، كلما حققنا نجاحاً أكثر، أو كلما حققنا تقدماً أفضل، هذه، بالإضافة إلى التقارير التي توظف في بازارات السياسة الداخلية و التي كان قصب السبق معقوداً فيها لتقرير الجنرال والسفير، وكذا المواعيد الملتبسة لانسحابات جزئية مشروطة التي تخلوا من المواعيد الجازمة، كلها عدة شغل إمبراطورية لا تردعها ولا تقيم وزناً إلا لحسابات "الأكلاف والمنافع" ، وكلها تفضحها أو تدعمها أو تطلق برسمها، لا فرق، تسريبات بدأت لنغمة حرب جديدة من شأنها أن تزيد غيومها المتوفرة أصلاً تلبداً، حيث تدور حولها الآن أو حول "أكلافها ومنافعها" النقاشات في الولايات المتحدة، نعني هذه التي تتركز حول مقولة "الضربة" المرجحة أو المنتظر توجيهها إلى إيران... لعل الكلام عن إنشاء قاعدة للمحتلين قرب الحدود الإيرانية العراقية، وإعادة نشر قوات بريطانية انسحبت من البصرة على الحدود بين البلدين، وقبلها رسائل الخرق العدواني الجوي الإسرائيلي شمالي سوريا، أو حيث الحدود مع تركيا، وما رافقه من لغط إعلامي أمريكي – إسرائيلي، كلها مؤشرات قد لا تعدو ما قد يصب في هذا السياق...

بوش لا زال هو بوش، ويريد أن يورّث بوشاً مكرراً لمن سيخلفه في البيت الأبيض... أي أن الإستراتيجيات الإمبراطورية لا تختلف استهدافات وإن اختلفت أدواتًا وأداءً... قبل أسبوعين، هبط بوش فجأة في قاعدة عسكرية في الأنبار، يومها صافح الشيخ عبد الستار أبو ريشة الذي يتزعم ما أطلق عليها "صحوة الأنبار"، أو ما يمكن وصفه تحالفاً عشائرياً – أمريكياً مفترض لمواجهة المقاومة،أو هذا الذي بنى الجنرال بتراوس والسفير كروكر والإدارة الأمريكية إنجازاتهم العراقية العتيدة عليه، وقال:

"أؤكد لكم أن أمريكا لن تتخلى عن أصدقائها"... بعد عشرة أيام بالتمام قتل أبو ريشة مع بعض مرافقيه... أي ذهب زعيم ما بنى الجنرال و السفير انجازاتهم الانبارية عليه، وبقيت إستراتيجية بوش العراقية بانتظار من سيخلفه في البيت الأبيض!