لافت للنظر التريث الإسرائيلي في تحديد طبيعة الرد العسكري على النتائج الموجعة لسقوط الصاروخ الفلسطيني على معسكر "زيكيم" الإسرائيلي، ويعيد الكثير مِن المحللين والمراقبين هذا التريث إلى اعتبارات حلول اعياد رأس السنة العبرية، وقرب موعد زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية للمنطقة. وهذا، وإن كان صحيحاً، إلا أنه لا يتناول السؤال الجوهري: هل سيقود ما وقع في معسكر "زيكيم" إلى اجتياح إسرائيلي واسع وشامل لغزة؟!!!

بداية لا اعتقد أن مثل هذا الإجتياح وارد، أو على الأقل غير وارد الآن، وذلك لإعتبارات سياسية وعسكرية جوهرية، يمكن ايجازها وتكثيفها على النحو التالي:

أولاً: اجتياح واسع وشامل لغزة، حتى وإن جاء دون العودة للاحتلال الدائم، إلا أنه ينطوي على احتمال "فرط" ما هو قائم مِن صيغة سياسية إسرائيلية للتعامل مع غزة، أي صيغة الاحتلال "عن بعد"، أو ما سبق وأطلقت عليه صيغة "المُعلَّقة" بين "الطلاق" و"الإعتماد"، كما حددها المعنى السياسي لخطوة فك الإرتباط مع غزة مِن طرف واحد، أي دون إتفاق سياسي مع الطرف الفلسطيني.

ثانياً: اجتياح واسع وشامل لغزة، حتى وإن تم على قاعدة "العصا" لغزة و"الجزرة" للضفة، إلا أن مِن شأن تداعيات القيام به أن يضرب الخطة الإسرائيلية لإستثمار الشرخ الفلسطيني الداخلي، التي تقوم (برأيي) على قاعدة: استباحة كل ما هو فلسطيني، وضرب كل ما هو موجود مِن تنظيمات وشخصيات فلسطينية، سواء المتهم منها بـ"التطرف" أو الموصوف بـ"الاعتدال"؛ وسبق لي أن لخصتها في مقالات سابقة على النحو التالي: إسرائيل لن تقوم بتشريع كل الأبواب أمام الضفة، كما لن تقوم باغلاق كل الأبواب أمام غزة، بما يبقي الحياة عند طرفي الصراع الفلسطيني، "فتح" و"حماس"، ضمن الحدود التي يحتاجها استمرار التطاحن بين الأطراف الفلسطينية في اطار سياسة "فخار يكسِّر بعضه".

ثالثاً: اجتياح واسع وشامل لغزة، حتى وإن كان مِن السهل توفير الدعم الأمريكي له، إلا أن مِن شأن تداعيات القيام به أن يضرب المرتكز الأساسي لما هو قائم حتى الآن مِن سياسة أمريكية إسرائيلية مشتركة تجاه المنطقة عموماً، والقائمة على محاولة "تسكين" الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر التظاهر بالإستعداد لتسويته سياسيا؛ وهو الاستعداد الذي لا أرى فيه أكثر مِن موسيقى تصويرية، تهدف لتوفير أجواء لكسب التحالفات السياسية العربية للسياسة الأمريكية، وما تخطط للقيام به على جبهات عربية واقليمية أخرى، خاصة بعد الفشل العسكري الإسرائيلي في لبنان، وفي ظل الورطة الأمريكية في العراق وافغانستان، ناهيك عن التحدي الإيراني الذي يتضح يوماً إثر يوم أن مهمة "تخليع شوكه" تقع على عاتق واشنطن وتل أبيب أولا وأخيرا.

رابعاً: اجتياح واسع وشامل لغزة، حتى ولو قررت القيادة الإسرائيلية القيام به كخيار نهائي، لا بد وأن يأخذ بالحسبان ما يجري على الجبهة الشمالية (سوريا ولبنان)؛ فمِن زاوية التوقيت على الأقل، يصعب القول أن القيادة الإسرائيلية ستقرر اجتياح واسع وشامل لغزة بعيدا عن نواياها تجاه سوريا ولبنان. ومعلوم أن جبهة الجولان تشهد تسخيناً إسرائيليا يرمي للضغط على القيادة السورية، ومحاولة إخراجها مِن الموقف الرمادي، الذي ما زال يحاول تجنب الدخول في الزوايا الحادة للأبيض والأسود مِن المواقف، علماً أن الطاقة الإستيعابية لهذا الموقف قد بدأت بالتناقص منذ بدأ الهجوم الأمريكي الإسرائيلي على الخاصرة السورية في لبنان. وجاء الفشل العسكري الإسرائيلي في عدوان تموز 2006، ليدفع الإسرائيليين للعمل بجدية أكبر على تغيير أصول اللعبة مع سوريا، لجهة عدم قبول بقاء الحال في حالة اللاسلم واللاحرب، خاصة وأن هذه الحالة لا تنسجم مع رؤية المخطط الأمريكي الشامل للمنطقة، التي لا تقبل استمرار المناكفة السورية في العراق ولبنان.

ما تقدم يعني أن اجتياح إسرائيلي واسع وشامل لغزة، وإن كان غير مستبعد كلياً مِن حيث المبدأ، بل ويمكن للإسرائيليين الإقدام عليه في حال أصبح لا مناص منه كخيار نهائي، إلا أنه مِن غير المرجح القيام به كردٍ على ما وقع في "زيكيم"، وذلك ارتباطا بموانع سياسية جوهرية، وليس ارتباطاً بمحاذير ذات طبيعة آنية يمكن التغلب عليها أو تذليلها أو التخفيف مِن آثارها.

ولكن استبعاد الاجتياح الواسع والشامل لغزة، لا يلغي حقيقة أن مركز القرار الإسرائيلي يتدارس منذ مدة كيفية ضرب غزة، أي حتى قبل لطمة "زيكيم"، التي لا يوجد أمام الحكومة الإسرائيلية إلا الرد عليها بضربات نوعية، وذلك ولو مِن قبيل امتصاص الغضب الشعبي ورد الإعتبار لهيبة الجيش الإسرائيلي. وبالتالي فإن الإعتبارات الآنية في تأخير الرد على ما وقع في "زيكيم"، يجب أن لا تحجب حقيقة أن الرد قادم. وهنا يكون السؤال: ترى ما هي طبيعة الرد الإسرائيلي؟!!!

تقديري أنه علاوة على رفع درجة ممارسة جرائم سياسة الإغتيالات بالمعنيين الكمي والنوعي، أي توسيع نطاقها واشتمالها على حالات مِن المستوى السياسي؛ وعلاوة على توسيع وتكثيف التوغلات المحدودة ذات الأهداف المحددة؛ وعلاوة على تشديد الحصار والاقدام على ممارسة أشكال بشعة مِن العقاب الجماعي للسكان، تتعلق بتزويد غزة بالوقود والكهرباء....؛ وعلاوة على توجيه ضربات جوية موجعة وجدية لمواقع ومراكز ذات طبيعة حيوية؛ أقول علاوة على كل ما تقدم، فإنني أعتقد أن مركز القرار الإسرائيلي يعكف على اتخاذ قرار حاسم تجاه ما يسمى بمنطقة "فيلاديلفي"، التي حاول الإسرائيليون إناطة الإشراف المباشر عليها للمصريين بعد اقدام شارون على خطوة فك الإرتباط الأحادي مع غزة؛ فعبر هذا الشريط الحدودي تجري عمليات تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة.

وللتذكير بأهمية السيطرة على هذا الشريط الحدودي بالنسبة للإسرائيليين، تجدر الإشارة إلى أن يغئال آلون كان أفرد لهذا الشريط بنداً خاصاً في مشروعه المُعَدَّل عام 1976 بالقول: "اعطاء مدينة غزة وضواحيها المزدحمة بالسكان للعرب، لكي تشكل ميناء للدولة الفلسطينية الاردنية، بينما تستمر اسرائيل في السيادة على القطاع الصحراوي الاستراتيجي الممتد من جنوب قطاع غزة حتى التلال الرملية الواقعة على المداخل الشرقية لمدينة العريش".

بالإجمال، ورغم قسوة ما وقع في "زكيم"، فإنني اعتقد أن الرد الإسرائيلي، وإن كان سيشتمل على ردود ميدانية ذات طبيعة موجعة، إلا أنه سيتجنب القيام بعمليات تنطوي على تداعيات سياسية ذات طبيعة نوعية بعيدة المدى، اللهم إلا امكانية اجراء تعديلات على موضوع السيطرة على الشريط الحدودي المشار اليه أعلاه.

وأكثر مِن ذلك، فإنني أعتقد أنه، حتى خطوة إعادة السيطرة الإسرائيلية المباشرة على هذا الشريط، تحتاج إلى امعانٍ للنظر والتفكير ملياً قبل الإقدام عليها؛ وفي هذا تتجلى أزمة السياسة الإسرائيلية في التعامل مع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. فصيغة الاحتلال "عن بعد" التي أرسى دعائمها رابين وبيرس عبر خطوة اعادة انتشار الجيش بالاتفاق السياسي (أوسلو)، وطورها شارون عبر خطوة فك الارتباط الأحادي في غزة، تبقى صيغة انتقالية، ولا يمكن تثبيتها كحل نهائي بديلا لإنهاء الاحتلال، كما تطمح القيادات الإسرائيلية على اختلاف تلاوينها الحزبية، التي عليها مواجهة حقيقة أن لا سبيل لايجاد تسوية، ولا أقول حلاً، للصراع بأقل مِن إنهاء الاحتلال والكف عن المعالجات الأمنية، التي مهما توهمت القيادات الإسرائيلية بنجاعتها، تبقى عقيمة وعاجزة، وما وقع في "زيكيم" لا يعدو أكثر مِن تأشير حاد على ذلك.