إن أحد أهم الدروس المقلقة في غزو العراق هو اكتشافنا لمدى خواء الدكتاتوريات العربية. فما أن يتسنى لك اقتحام القصر الرئاسي وإحكام سيطرتك عليه، حتى يتجه المصعد من هناك مباشرة إلى المسجد. فليس ثمة فاصل بين هاتين المؤسستين: أي ليس هناك مجتمع مدني ولا نقابات مهنية فعلية، ولا وجود لجماعات ناشطة حقاً في مجال حماية حقوق الإنسان، إلى جانب غياب البرلمانات والصحافة الحرة المستقلة. وبما أن هذا هو واقع الحال، فليس هناك ما يثير الاستغراب في بروز القادة الدينيين الذين يسيطرون على السياسات بين سُنة وشيعة مسلمي العراق في أنحاء متفرقة منه. غير أن هذا الواقع لا ينطبق على الجزء الشمالي منه، أي في إقليم كردستان. فعلى الرغم من أن الإقليم لم تتطور التجربة السياسية فيه إلى حد الممارسة الديمقراطية الكاملة، فإنه ماض في بناء مؤسسات المجتمع المدني الرئيسية. وقد التقيت بممثلي 20 من هذه المؤسسات والمنظمات الكردية: اتحادات وجمعيات حقوق إنسان، ومنظمات رقابة سياسية، ومحررين وممثلات للمنظمات والجمعيات النسوية. ومما خرجت به من لقائي بهم واستماعي إليهم، ضرورة دراسة كيف سار نهج التحول الديمقراطي بكل هذا النجاح هنا في أربيل، حتى يتسنى لنا إدراك ما تمكنا أو عجزنا عن تحقيقه في مسار التحول الديمقراطي في العراق، بل وعلى نطاق العالم العربي كله.

يجدر بالذكر أن الولايات المتحدة لعبت دوراً أساسياً في إنجاح التجربة الكردية هذه. ففي عام 1998 ساعدت بلادنا في وضع حد للحرب الأهلية الكردية، إثر حل النزاع الدائر حينها حول السلطة بين عشيرتين رئيسيتين متنافستين حينها. وبذلك فقد توفر الأساس اللازم لإجراء انتخابات حرة نزيهة تستهدف اقتسام السلطة في عام 2005. وبعد إسقاطنا لنظام صدام حسين في عام 2003، فقد انفتح الإقليم الكردي أمام فيض هائل من الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية. فذاك هو كل الذي فعلناه هنا ولا شيء غيره. واليوم فليس ثمة وجود لدبلوماسي أو جندي أميركي واحد في الإقليم. ومع ذلك فإن الحياة السياسية مزدهرة ونامية هنا، تماماً مثلما هي الحياة الاقتصادية في الإقليم. فتلك هي إرادة أهل الإقليم ومشيئتهم. وبالمقارنة، فإذا ما اتجهنا جنوباً بضعة كيلومترات فحسب، فلا شيء يذكر من تحول كهذا، على رغم إنفاقنا لمليارات الدولارات في مسعى منا لغرس الديمقراطية في المناطق السُنية والشيعية من العراق.

ونخرج من هذه المقارنة باستخلاص ثلاثة دروس أساسية أولها أنه يستحيل بناء أي حياة سياسية مستقرة في جنوبي العراق، قبل حل النزاع الدائر الآن حول السلطة بين المسلمين السُنة والشيعة. ثانياً وما أن يعقد شعب ما العزم على القعود بمسيرة التقدم السياسي والاقتصادي لبلادهم، فلا شيء يوقف تحقيق تلك المشيئة مطلقاً، كما يتعذر لأي كان تقديم العون لمن لا يرغبه أصلاً، بل هو راغب عن مساعدة نفسه أصلاً. أما الدرس الثالث والأخير فهو أن للثقافة أهميتها ودورها في عملية إعادة البناء الديمقراطي.

فكما أوضح لي سلام باواري -مدير مركز أبحاث الديمقراطية وحقوق الإنسان بكردستان- فإن الصيغة الكردية من الإسلام تتسم بالاعتدال والتسامح، ما ساعد على ازدهار ثقافة التعدد في الإقليم. وفيما قاله لي إن لهم تاريخاً يعود إلى ألفي عام من التعايش المشترك لأهل الإقليم ومن حولهم. وعلى رغم وجود نزاعات كردية-عربية إلى اليوم، إلا أن مستوى التسامح الموجود في الإقليم، قلما وجد له مثيل في الأنحاء الأخرى من العراق.

أذكر أنني وأثناء زيارتي هذه لإقليم كردستان، قد قرأت كتاب «الاسم الموجب للديمقراطية: نهوض ومخاطر أكثر أشكال الحكم شعبية في العالم»، وهو من تأليف صديقي مايكل ماندلباوم، الخبير في الشؤون الخارجية بجامعة جونز هوبكنز. ومما شد انتباهي علاقة الكتاب الوثيقة بالمشروع الأميركي الرامي لإحداث التحول الديمقراطي في العراق وما وراءه. ومما أثاره ماندلباوم أن الديمقراطية تتألف من مكونين رئيسيين هما الحرية والسيادة الشعبية. وفي رأيه أن الحرية تشمل ما تقوم به الحكومات: سيادة القانون، حماية المواطنين من إساءة الدولة لاستخدام سلطتها، إضافة إلى وضع اللوائح والقوانين التي تعمل بموجبها المؤسسات الحكومية. أما السيادة الشعبية فتتضمن بين عدة عناصر أخرى، الكيفية التي يختار بها الشعب من يحكمه عبر الانتخابات الحرة النزيهة. وعليه فإن من رأي ماندلباوم أن ما يجري في بغداد الآن، إنما يرمز إلى تلك الحالة التي تجري فيها الانتخابات في ظل غياب الحرية. والنتيجة الطبيعية هي أن ينتهي الأمر إلى سيادة استبداد الأغلبية، أو إلى ما أشار إليه فريد زكريا بعبارة الديمقراطية غير الليبرالية. وعلى نقيض هذه الحالة، فإنه لا تزال أمام كردستان فرصة بناء ديمقراطية متوازنة، لكون الإقليم يعمل على بناء مؤسسات الحرية وليس مجرد عقده للانتخابات الشكلية الصورية.

ومما قال به ماندلباوم في إطار مقارنته بين ما يجري في بغداد وكردستان، إن في وسع أميركا وغيرها من الدول الأخرى تقديم يد العون في تهيئة الظروف والمناخ الملائمين لغرس الديمقراطية وتمكين جذورها من الضرب عميقاً في تربة بلد ما. غير أن الذي يبقى خارجاً عن الإرادة الأجنبية، أن يختار الشعب نفسه تطوير المهارات ونشر القيم الكفيلة بنمو ذلك الغرس وازدهاره.

وعلى حد تعبير همين مالازادا -رئيس اتحاد صحفيي كردستان- فإذا ما نظر المرء إلى جنوبي العراق، فإنه يلحظ غياب النزعة الديمقراطية لدى الحكومة والشعب معاً، في حين أن الحكومة الديمقراطية لا تكون في الأصل إلا لشعب ديمقراطي. ومن رأي ماندلباوم أن إحدى الوسائل التي يمكن بها تطوير البرامج التشغيلية للحرية هي العمل على بناء وازدهار السوق الحرة، وأن هناك واحداً منها على الأقل هناك في كردستان. وبالمقارنة فلا شيء سوى الفوضى العارمة في اقتصاديات الأنحاء الأخرى من العراق. ويدعم ماندلباوم رأيه هذا بالقول إن في وسع اقتصاد السوق أن يجعل للمواطنين سهماً في بناء السلام فضلاً عن تمكينهم من التعامل مع الأجانب على نحو بناء وأكثر إيجابية. ذلك أن اقتصاد السوق يعلّم المواطنين أساسيات الممارسة الديمقراطية وأصول الثقة المتبادلة وفنون التفاوض والتنازلات. وليس مستبعداً أن تخيب الديمقراطية بسبب انعدام التسامح الديني ونقمة النفط والإرث الاستعماري متبوعاً باستبداد الديكتاتوريات العسكرية، على نحو ما نرى في منطقة الشرق الأوسط. ومن هذا الدرس العراقي نتعلم حقيقة استحالة بناء الديمقراطية ما لم يرغب الشعب العراقي في ركني الديمقراطية معاً: الحرية والحكم الذاتي.. وما لم يسهم هو نفسه في بنائهما.