ولا مرة في تاريخ لبنان السياسي تمّ «انتخاب» رئيس جديد للجمهورية بأصوات لبنانية صرفة، سواء أكانت لأقطاب أو زعماء سياسيين أم لمرجعيات روحية، أخطرها بكركي، فضلاً عن «السادة النواب»..
دائماً كانت هناك «أصوات خارجية مرجحة» أبرزها اثنان: الصوت العربي، مع أرجحية واضحة لمصر جمال عبد الناصر ومعها سوريا ـ الوحدة، ثم بعد «انسحاب» مصر من دورها العربي آل الصوت العربي إلى سوريا ومعها السعودية، وإن في موقع الشريك الأصغر، خصوصاً وأن الصوت الدولي قد احتكره النفوذ الأميركي في الخمسين سنة الأخيرة، وكان يدعي اشتماله على حصة «العرب الآخرين».
ودائماً كان المرشحون للرئاسة ينطلقون في حساب احتمالات النجاح من مدى الملاءمة بين «حصة العربي» و«حصة الأميركي»، تاركين للحظة الأخيرة في «الصفقة» أن تحسم الخيار، مسلِّمين سلفاً بهذه النتيجة بوصفها «القدر»، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
مرة واحدة صار خروج على هذه القاعدة، ولأسباب طارئة واستثنائية حتى ليمكن وصفها بالزلزال، وهي تتصل بظروف انتخاب الراحل بشير الجميل رئيساً، بينما جيوش الاجتياح الإسرائيلي تحتل معظم لبنان، بما فيه عاصمته ـ الأميرة بيروت، والجنرال أرييل شارون يتفقد قصر بعبدا.
ولأن النسيان شرط حياة، فقد أمكن لقسم كبير من اللبنانيين أن يحتفلوا بالذكرى الخامسة والعشرين لاغتيال الرئيس الذي انتخب في ثكنة عسكرية وبحراسة دبابات الاحتلال، ولم يتسنَّ له أن يصل إلى سدة الرئاسة.
ولأن النسيان نعمة فقد أمكن لقسم آخر من اللبنانيين أن يغفلوا عن إحياء ذكرى المذابح التي نُظمت بإشراف جيش الاحتلال الإسرائيلي، ونفذها «مقاتلون غاضبون» لاغتيال قائدهم الذي انتخب رئيساً، في مخيمي صبرا وشاتيلا، وذهب ضحيتها أكثر من ألف وخمسمئة من النساء والأطفال والشيوخ والفتية الفلسطينيين ومعهم عشرات من فقراء اللبنانيين والشاردين من أوطانهم بطلب لقمة العيش.
على أن النسيان لا يغطي الحقيقة التي بقيت وما تزال باهرة وصارخة حتى الآن: الاحتلال الأجنبي، أقله المكشوف، لا يصنع رئيساً للبنان.. ودبابة الاحتلال (أو سفارته) لا تصلح منصة لمن يريد أن يكون رئيساً لهذه الجمهورية الصغيرة التي تتسع «كواليسها السياسية» للدول جميعاً.
وبرغم أن لا احتلال أجنبياً مباشراً في لبنان اليوم، إلا أن التدخل الأميركي الذي توغل إلى أدق الشؤون اللبنانية، سياسية واقتصادية وعسكرية، وصولاً إلى ما يفترض أن يكون في منزلة «المقدّس»، أي الدستور، يكاد يعادل بتأثيره المباشر «الاحتلال»، ويكاد يستولد ـ بالتالي ـ مقاومة شديدة لخياره الرئاسي، في لحظة يحتدم فيها صراع الإرادات والمصالح في المنطقة بأرجائها جميعاً.
وبين الطرائف اللبنانية أن يشتد الجدل حول تفسير ما لا يحتاج إلى تفسير من نصوص الدستور، وكل ينحاز إلى ما يلائم «تقديره» في أن يباغته الحظ فيكون الفائز في السباق الرئاسي العتيد، بينما صيحات الحرب ترتفع في طول المنطقة من حولنا وعرضها، ويعيش الناس في قلق عظيم على المصير، خصوصاً وأن مناخ الهزيمة التي يمنى بها جيش الاحتلال في العراق، حالياً، يكاد يذهب «بالرصانة» و«العقل البارد» التي يفترض أن تتميّز بها إدارة دولة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية.
الخوف أن يتصرف الرئيس الأميركي جورج بوش كما تصرف جنرال الاجتياح الإسرائيلي أرييل شارون، فيفترض أن بوسعه أن يفرض رئيساً على اللبنانيين، بقوة هيمنته، وبدواعي تحصين خطوطه الخلفية، ويكون اللبنانيون ضحايا مرتين: ضحايا جنون العظمة الأميركي المعطوب، وضحايا جنون السباق نحو عرش متهالك في دولة لم يتبق لها من معالم الدولة شيء... ونغرق في الدم من جديد حتى يحين موعد الصفقة السرية من فوق رؤوس الجميع، وربما على حساب الرئيس المفروض والمستحيل عليه أن يحكم هذه الجمهورية التي تختصر الدنيا!

مصادر
السفير (لبنان)