لا يجوز تحميل الحكومة السورية الحالية، برئاسة محمد ناجي عطري، كل المسؤولية عما وصلت إليه البلاد الآن من ترد على الصعيد الاقتصادي، كونها ورثت الكثير من الأزمات من الحكومات التي سبقتها، حسب ما تتذرع به دوما. لكن هذا، على ما يبدو، لم يعد كافيا للتهرب من مواجهة التحديات الاقتصادية والمعيشية التي أخذت تحكم الخناق عليها، الى درجة باتت تتخبط بين قراراتها وإجراءاتها المرتبكة والمتناقضة بشكل دائم ويومي.

وكان آخر ذلك إعلانها عن نيتها برفع الدعم عن المحروقات، بعدما روجت لهذا القرار منذ أكثر من سنة، حين اعتبرت أنها لن تتمكن من إنجاز الخطة الخمسية العاشرة، التي اعتمدتها منذ قرابة السنتين، ما لم توقف هذا الدعم وتجيّر أمواله في مشاريع خطتها. لكنها عادت لتقول إن هدفها من ذلك إعادة توزيع الدعم بطريقة أكثر عدالة. جاءت حجتها هذه بعد أن فوجئت باستياء كبير من الناس، ما جعلها تتراجع، لأول مرة في تاريخ الحكومات السورية، طالبة من العموم مناقشة المسألة وتبيان الهواجس واقتراح الحلول، قبل اتخاذها القرار النهائي. لم يأت هذا الاستياء الشعبي ردا على موضوع المحروقات فقط، بل نتيجة معاناة الناس منذ فترة من ارتفاع شديد ومتتابع لأسعار جميع السلع والخدمات، الى درجة لم تصلها في يوم مضى، وإلى تراجع حالة الكهرباء ومياه الشرب ومياه الري والاتصالات والمواصلات والطرقات والسكن... وغير ذلك من الخدمات الأساسية عمّا كانت عليه سابقا، إضافة الى تفاقم الفساد الإداري والمالي بشكل فاقع، رغم ما تعلنه الحكومة من برامج وإجراءات للحد منه. ما أدى الى تردي الأحوال المعيشية لجميع الشرائح غير الثرية التي يعاني أفرادها أساسا من ضعف الأجور والرواتب.

عدم ظهور أية ملامح إيجابية، قد يكون توخاها الناس، بعد مضي عدة سنوات على شروع الحكومة الحالية وسابقتها بالإصلاح الاقتصادي، ما لم نقل إن الأمور جرت على عكس آمال الحكومة أو وعودها، يجعلنا نشكك مرة جديدة في جدوى الخطة الحكومية وبطريقة تطبيقها لتحويل اقتصاد البلاد من اقتصاد موجه أو تخطيطي إلى «اقتصاد السوق الاجتماعي»، كما أسمته. والذي كانت قد اعتمدته منذ قرابة ثلاث سنوات، قبل أن يقره المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم منتصف العام .2005 وكان ذلك نتيجة حاجة الحكومة لسياسة اقتصادية تمكّنها من إدارة برامج الإصلاح التي تنوي تنفيذها. خاصة ما يتعلق منها بإشكالية وجود قطاع عام خاسر وفاسد، صار يشكل عبئا اقتصاديا على الدولة، بعد أن فقد مكانته السياسية، حيث كان يشكل متكأ مركزيا لأيديولوجيتها الداخلية. وبات عاجزا حتى عن تأمين فرص العمل لقوة العمل الوافدة سنويا، وعن تأمين حاجيات الناس الاستهلاكية بعدما اتسعت دائرتها كثيرا. موضوع الإصلاح الاقتصادي أو إيجاد بدائل استثمارية للقطاع العام والحكومي ليس جديدا على الحكومات السورية. فعلى أثر ما واجهته البلاد غير مرة، منذ الثمانينات، من أزمات اقتصادية عنيفة، تمكنت من الخروج منها ولو بشق النفس، جعلها تحاول اللجوء إلى مشاركة القطاع الخاص، الذي لم ترضه فكرة القطاع المشترك التي اعتمدتها الحكومة في فترة سابقة، كما لم يجذبه قانون الاستثمار رقم 10 الشهير، وتعديلاته اللاحقة، رغم كل التسهيلات الجائرة بحق الشعب والدولة التي قدمتها الحكومة في سبيل المصالحة مع القطاع الخاص، بعد القطيعة التي نجمت عن إقصائه منذ أربعة عقود.

ترافق هذا الإخفاق، بإيجاد البدائل الاقتصادية وبإغراء القطاع الخاص الأجنبي أو الوطني للاستثمار داخل البلاد، مع تنامي اعتماد قلة من أثرياء جدد محليين بالقيام باستثمارات في سوق الخدمات السورية، مستغلين قدرتهم بالحصول على استثناءات تحول دون تمكّن آخرين من منافستهم. كاستثمار وكالات مطاعم أجنبية راقية مثل التي افتتحها أولاد عبد الحليم خدام، النائب السابق لرئيس الجمهورية. أو احتكار سوق الإعلانات الطرقية، كمثال آخر.

حتى وصل الأمر إلى: حكومة عاجزة عن القيام باستثمارات وعن جذب الرأسمال الخارجي للاستثمار في البلاد، في مقابل ظهور أحجام مالية ضخمة بأيدي أثرياء جدد يحتاجون إلى زيادة مداخيلهم، وعدم الاكتفاء بالفوائد على أموالهم من البنوك الأجنبية خارج البلاد. إضافة لعجزهم عن الاستثمار في الأسواق العالمية بسبب عدم امتلاكهم أدنى الخبرات اللازمة لذلك، لكونهم وارثي أموال وليسوا منتجيها. ما جعلهم يطمعون في الاستثمار داخل سوريا لمقدرتهم على تأمين توجهات حكومية تضمن لهم الربح المأمون، ولما يمكّنهم مثل هذا الاستثمار من لعب دور نافذ على الصعيد السياسي، دون أن يضطروا إلى العمل الحكومي، الذي بات غير مرغوب بعد استنفاذ القطاع العام. فتلاقت رغبات هؤلاء الشبان الأثرياء وإمكاناتهم المالية مع حاجة الحكومة.

جراء هذا الوضع، كان لا بد من قيام تسوية تحت عنوان "اقتصاد السوق الاجتماعي"، متضمناً شقين: الأول، فتح السوق كاملا أمام هذه الأموال المحلية، والثاني، إبقاء دور للحكومة بذريعة عنايتها بالهم "الاجتماعي" لتتمكن، باعتبارها صاحبة القرارات الاقتصادية، من ضبط هذا الانفتاح لكي لا ينفلت أو يزداد اتساعه، خشية تمكّن الرساميل الأجنبية والوطنية من دخول السوق ومنافسة الماليين المحليين الجدد. مما يبقي تعدد مصادر التمويل والاستثمار رهنا بمصلحة هؤلاء الأخيرين: يوافقون عليها، أو يشاركونها، إن كانت في صالحهم، ويمانعونها إذا كانت خلاف ذلك.

لكن مسار هذه التسوية وصل الآن إلى منعطف جديد، تمثل في إخفاق الحكومة وفريقها الاقتصادي بضبط تدهور الواقع الاقتصادي. حيث واصلت الأسعار ارتفاعها بعد تعليق الحكومة إصدار قرار رفع الدعم، وازدادت الجوانب المعيشية الأخرى تأزما مع قدوم شهر رمضان بالتزامن مع بداية العام الدراسي واقتراب موسم الشتاء. ولا يبدو في الأفق المنظور أن هذه الحكومة، أو أخرى بديلة لها، قادرة على الحد من تفاقم الأزمة المعيشية، التي طاولت الشرائح الأكبر في المجتمع السوري، إذا ما بقيت السياسة الاقتصادية والاجتماعية تتبع نفس الثقافة والفهم. فهذه الحكومة، على سبيل المثال، مع تفرغها تقريبا للمسألة الاقتصادية، توظف جل جهدها على المحافظة على سعر صرف الليرة السورية في مقابل الدولار الأميركي تحديدا، بأي ثمن وبأية طريقة، وترى إلى هذا المعيار مقياسا كافيا لمتانة الاقتصاد الوطني. حيث تنظر إلى هذا الدولار على أنه خصمها السياسي والإيديولوجي، أكثر من اهتمامها بخط الفقر الذي يتساقط دونه نسبة من السوريين تزداد يوميا، لتفوق 30٪ في أرأف الإحصائيات.

هذا المأزق يضع الحكومة أمام خيارات مرة: فهي لن تكون قادرة على ضمان إبقاء الاحتجاج الشعبي ضمن دائرة التململ والاستياء إذا استمرت الحالة المعيشية في التردي، كما لا يمكنها الاعتماد على ديون خارجية بسبب ارتفاع أثمانها السياسية والاقتصادية، بغض النظر عن مصدرها، ما يفرض عليها المضي بخيارها الخاسر إلى نهايات قاهرة وتقديم المزيد من التنازلات لأولئك الماليين، قد يكون ذلك عبر بيعهم مؤسسات من القطاع العام أو عقارات مركزية في قلب المدن، أو أي سبيل آخر يمكنه أن يرفد الميزانية العامة بأموال جديدة تمكّن الحكومة من التلطي خلفها، ولو إلى أجل قصير.

فإن استمرت هذه السياسة الاقتصادية والاجتماعية إلى أجل أطول، فسينجم عنها آثار اجتماعية كارثية، لن تقف عند حدود اتساع الفوارق الطبقية جراء سوء توزيع الدخل القومي وانعدام تكافؤ الفرص، وجراء تحرير الأسواق والسلع وأسعار الكثير منها دون تحرير الإنتاج وقواه وآلياته، بل سيطاول الضرر بنية واستقرار النظام السياسي بمجمله. فالحكومة، رغم أنها ليست صانعة القرار السياسي، فإنها تشكل أحد أجهزة التسلط الرئيسية، وضعفها وعدم مقدرتها على التحكم في واجباتها الإدارية والخدمية سيتسبب في إضعاف النظام العام، وسيفتح البلاد أمام آفاق واحتمالات عديدة ومتنوعة، سيكون أهونها وأكثرها سلمية دخول البلاد في مسارات تحوّل كتلك التي جرت في روسيا عقب انفراط عقد الاتحاد السوفياتي. مع التمييز على الفارق بين بنية الدولتين الذي أتاح لروسيا البقاء دولة عظمى، والذي يدفع بسوريا أن تغور أكثر بين الدول المتخلفة والمهددة بالانفراط.